ومن بعض هذا الاهتمام برنامج تلفزيوني من ثلاثين حلقة انتجته قناة سورية دراما قبل ثلاث سنوات، من اعداد واخراج الزميل الياس الحاج، وحمل عنوان المضحك الباكي في تحوير ذي دلالة لعبارة المضحك المبكي التي استخدمت لزمن طويل عنواناً لصحيفة اسبوعية سورية واسعة الانتشار.
العام الماضي انتجت قناة سورية دراما عملاً آخر بالغ الاهمية عن الراحل في اربع حلقات تلفزيونية بعنوان مذكرات شامي عتيق باشراف الزميل تميم ضويحي مدير القناة، ومن سيناريو واعداد الزميل غسان كلاس، واخراج الزميلة هيام ابراهيم، وقامت الزميلة هدباء العلي بقراءة النص المكتوب، فيما تولى الفنان تيسير السعدي سرد زكرياته بنفسه، في حديث طويل وممتع، مليء بالتفاصيل الغنية التي تبرر وصف تيسير السعدي بأنه ذاكرة القرن العشرين وقد اكد حقه بهذا الوصف عن غير قصد حين قال في مطلع ذكرياته المتلفزة او في سفره الصوتي على حد توصيف البرنامج: لقد عشت القرن العشرين كله تقريباً.
يبدأ تيسير السعدي حديثه بعبارة كل عام وانتم بخير مهنئاً المشاهدين بقدوم شهر رمضان حين اذيع البرنامج ومن هذا المدخل يتحدث عن صعوبة رمضان هذا العام لانه يجيء في مربعانية الصيف، والنهار طويل وشوب، لكن رمضان لن يكون صعباً، بالشكل الذي كان عليه في الماضي، لان هناك الان برادات ومكيفات، بخلاف الحال في ايام زمان، ليبدأ من هنا سرد زكريات حياته التي امتدت نحو مئة سنة شهد خلالها رمضان في كل فصول السنة، ويبدأ من هنا ايضا حديثه المشوق عن مشاهد الحياة اليومية في مطلع القرن حين لم تكن البرادات قد عرفت بعد، بل ان مياه نبع الفيجة لم تكن قد وصلت دمشق بعد، وكان الناس يشربون من ماء النهر، ومن الابار، لذلك كانوا يصابون بالامراض المختلفة، وانا في صغري اجاني تيفوئيد، واجاني غيره، وما في مرض ما اجاني، ونفدت منهم، وهذا اللي طول عمري بالظاهر، ويصف السعدي كيف كان الناس يلجؤون لاجل مواجهة الحر، الى العصائر المبردة بالثلج المجلوب من خارج دمشق، وبالتحديد من القلمون وجبل الشيخ ففيهما كان الاهالي يحفظون الثلج شتاء في حفر بالمناطق المرتفعة الباردة حتى يصير جليداً قاسياً، فينقلونه في الصيف الى باعة العصائر في دمشق، والعرقسوس خاصة، وهؤلاء بدورهم يقومون بتقطيع الثلج بالمنشار الى قطع صغيرة يضعونها في الدلاء المعدنية الصغيرة للزبائن، ويحكي السعدي تفاصيل عن المشاكل الكثيرة التي كانت تحدث بسبب الازدحام عند العرقسوساتي مع اقتراب موعد الافطار، وان هذه المشاكل لم تتوقف حتى مع انشاء اول معمل للثلج في دمشق زقاق الصخر بعد سنوات طويلة، وقد تسبب الازدحام والتدافع الشديد في احد اشهر رمضان الى وقوع قتيل امام المعمل.
على هذا المنوال، وعلى امتداد الحلقات الاربع يتابع تيسير السعدي سرد ذكرياته بتدفق وسلاسة، مازجاً دون تكلف، بين حكاياته الخاصة، والاحداث السياسية والاجتماعية والفنية للزمن المرافق لها، فجاءت تلك الذكريات وكأنها تاريخ لذلك الزمن، يستكمل ما تحدث عنه في برنامجه التلفزيوني السابق المضحك الباكي، وما ادلى به الى الدكتورة ميسون علي، ودونته بأمانة في كتابها عنه الذي حمل عنوان تيسير السعدي ممثل بسبعة اصوات، وتستكمله الصور الفوتوغرافية، ومقاطع الفيديو التي عرضت خلال البرنامج والتي توثق لبعض من اعمال الفنان، وتاريخه الابداعي.
برنامج مذكرات شامي عتيق الذي عرضته قناة الدراما في رمضان الماضي، واعادت عرضه اثر رحيل تيسير السعدي قبل اكثر من اربعين يوماً، برنامج يستحق التقدير، ويستحق ان يكون نواة ومنطلقاً لعمل درامي هام يؤرخ لحياة فنان كبير ورائد كما يؤرخ لمرحلة هامة من تاريخ سورية السياسي والاجتماعي والفني.