تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تشــــومســـــــكي .. ثورة لا تتوقف في علم اللسانيات

لوموند
ثقافة
الأحد 20-6-2010م
ترجمة: دلال ابراهيم

منذ عهد نيوتن وكل العلوم تبحث عن مؤسس لها. وساد الاعتقاد خلال مطلع القرن التاسع عشر أنه تم تسمية مؤسس علم اللسانيات، حيث نسبوه إلى العالم الألماني فرانز بوب، الذي أسس النحو المقارن. وفي مطلع القرن العشرين، جاء السويسري فرديناند دو سوسير، واعتبروه مؤسس (البنيوية)، وفي ظل النهاية لمع اسم نعوم تشومسكي كأحد أهم اللغويين الذين تمكنوا من وطء الأرض الموعودة لهذا العلم.

ينسب إلى تشومسكي ثورة اقترنت باسمه، وهي (النحو التوليدي) ويعود أول عرض لها إلى العام 1957 مع الهياكل النحوية. إذ ولغاية ذلك الحين، كان يعتقد اللغويون أن مهمتهم تتكرس في شرح السلوك اللغوي للمجتمع، أما تشومسكي فقد أكد أن مهمة اللغوي تكمن في تفسير قدرة كل فرد على خلق (توليد) عدد لامتناهٍ من الجمل. «لاأصنع لغتي مما يقوله الناس في المجتمع حيث ولدت، إنها داخل رأسي، وتتولد من خلال آلية تجعلني قادراً على قول وفهم عدد غير محدود من الأشياء غير موجودة سابقاً. ويشبه تشومسكي هذا الإنتاج اللغوي بالنظرية الرياضية حيث يمكن من خلال عدد قليل من الفرضيات إنشاء نظريات، وبالمثل فإن إدراكنا لهذه الجملة الصحيحة من الناحية النحوية يعود الفضل لاستنباطها إلى نظام بسيط من البداية، وهذا ما يسعى علماء اللغة إلى إعادة تشكيله.‏

وهكذا أصبح علم اللغة أحد فروع علم النفس، ولكن ذلك العلم الذي يعتبر الفكر كنوع من الحواسيب التي تضع فرضيات ذهنية لغاية الحصول على النص كالذي بين أيدينا، على سبيل المثال. وقد أطلق تشومسكي ما يعرف (بالثورة المعرفية) التي تدير أعمالاً مجتمعة لعلماء المعلوماتية والمنطق والاختصاصيين بالعلوم الإنسانية وعلماء الأحياء ونلمس نتائجها الآن في جميع مجالات المعرفة والتقنيات وحتى حياتنا اليومية، أي أنها صنفت الإنسان بصفته حيواناً قادراً على التعلم والمعرفة، قبل كل شيء، وليس بصفته حيواناً سياسياً أو اجتماعياً أو عقلانياً أو رمزياً أو دينياً، كما وأثار سجالاً فلسفياً يسأل هل الفكر محصور ضمن الجمجمة؟ وهل الإنسان هو مناور بالكتابات الرسمية؟ في الواقع، تنبع قوة تشومسكي من قدرته على التصدي لهذه القضايا من خلال مقارنتهم مع متطلبات الخصوبة العلمية.‏

وينظر للعلم بصفة (برامج بحث) فنحن نضع هذه النظرية، ومن ثم نشرع في اخضاعها للتجربة وكلنا أمل أن تأخذ هذه النظرية طريقها، وكذلك تحمل لنا مفاجآت وتثري نقطة انطلاقنا وتجدد نظرتنا للأشياء، وإذا لزم الأمر نغير كلياً النظرية، وهذا ما حققته (اللسانيات التوليدية). وانضم معظم علماء اللغة إلى هذا المنهج، ويفسر هيمنة تشومسكي على هذا العلم قدرته على أن يكون حازماً في صياغة نظرياته والتي سرعان ما تأخذ في الحسبان الاعتراضات، ليعيد صياغة إطار نظري جديد أكثر حسماً وحساسية للوقت من سابقتها، وبفضل تشومسكي بقي هذا العلم بحالة ثورة دائمة.‏

منذ أعوام الثمانينات شهد النحو التوليدي انقلاباً حاسماً، حيث لم تعد مهمة علم اللغة وصف اللغات، بل وصف اللغة بوصفها ملكة شمولية فطرية.‏

فاللغة ليست هي المقدرة على تعلم لغات كأي أنظمة شكلية أخرى. وليس هناك لغات، بل فقط هناك موهبة لغة، وهي آلة تسمح للإنسان بأن يقيم، من جهة، اتصالاً بين تجارب جهازه الصوتي وبين أصوات الآخرين. ومن جهة أخرى بين الأفكار المتنوعة المتشكلة عن الأشياء، إذ يمتلك الإنسان قبل أن يتعلم الكلام القدرة على إنتاج وإدراك الأصوات الواضحة والقدرة على بناء تمثيل ذهني لمعتقداته. واللغة تبدو كوسيط بين تلك المهارات ووضعها في التواصل.‏

وتنتج اللغة عن محاولة داخلية لدى كل فرد للتوفيق بين هاتين الآلتين الصغيرتين الموجودتين مسبقاً في دماغنا. وهذه القدرة لا تأتي من المجتمع، وإنما هي فطرية.‏

ومنذ أعوام التسعينيات يشارك تشومسكي في برنامج طموح، مثير للجدل، يهدف إلى الكشف على أن ملكة اللغة هي الحل الأمثل والأبسط لمشكلة العلاقة بين الإدراك والفكر، وهو ما يسميه برنامج (الحد الأدنى).‏

لا ريب سيكون هناك عهد ما قبل تشومسكي وما بعده، ولا يمكن لأي شخص معني بمعرفة الذات البشرية أن يبقى غير مبال بأعماله اللغوية، لقد وضع تشومسكي لهذا العالم عرضاً في متناول يد الجميع، وتستحق تلك على الأقل إعارتها اهتماماً أكثر من طروحاته السياسية.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية