وكان تولي أوغو شافيز رئاسة فنزويلا عام 1999 فاتحة للانعتاق من سيطرة القوى الكبرى والتفكير بصورة أساسية فيما يحقق مصلحة الشعوب الفقيرة في دول هذه المنطقة من العالم وعزز ذلك نجاح شخصيات وطنية مناهضة لسياسة الهيمنة والمؤسسات الاقتصادية الدولية التي يسيطر عليها صندوق النقد الدولي.. البنك الدولي في الوصول الى الحكم مثل تشيلي في عام 2000 والبرازيل عام 2002 التي جاءت برجل الطبقة العاملة لولا دا سيلفا نصير الفقراء وفي الارجنتين عام 2003 وفي أوروغواي2005 وغيرها من دول أمريكا اللاتينية تضع مصلحة شعوبها نصب اعينها بعيدا عن التأثيرات الخارجية ونفوذ القوى الخارجية.
وباتجاه ارساء الاسس المتينة لانجاز التكامل بينها وقعت العديد من دول أمريكا اللاتينية اتفاقيات تعاون ثنائية تهدف الى تحقيق التكامل الاقتصادي في القارة فوقعت البرازيل وفنزويلا 26 اتفاقا لتعزيز التحالف الاستراتيجي تغطي مجالات الدفاع والتعدين والطاقة وفي عام 2008 قام رؤساء 12 دولة بالتوقيع على الاتفاق التأسيسي لاتحاد بلدان أمريكا الجنوبية يوناسور الذي يعد حدثا تاريخيا هاما لدوره الاقليمي والدولي على غرار الاتحاد الاوروبي غايته تعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي في القارة اللاتينية ويضم في عضويته الارجنتين وفنزويلا وبوليفيا والبرازيل وتشيلي وكولومبيا والاكوادور وغويانا وباراغواي وبيرو وسورينام وأوروغواي.
وبرزت دول في القارة اللاتينية مثل البرازيل وفنزويلا والارجنتين كقوى اقتصادية وسياسية فاعلة على المسرح الدولي ونجحت هذه الدول في اعادة رسم الخارطة الجيوسياسية في القارة بعيدا عن سياسة التبعية للولايات المتحدة بما يسمح لها باستقلالية قرارها السياسي ويحقق مصالح شعوبها.
ونجحت البرازيل القوة الاقتصادية الاولى في أمريكا اللاتينية وثامن أكبر اقتصاد في العالم في الخروج من الازمة المالية العالمية بفضل سياساتها الاقتصادية بأقل الخسائر وقبل الكثير من الدول الكبرى فحقق الاقتصاد البرازيلي نموا بمعدل يعد الاسرع خلال ال 14 عاما الاخيرة وذلك طبقا للاحصائيات الرسمية الخاصة بالاشهر الثلاثة الاولى من عام 2010 وارتفع الناتج المحلي الاجمالى بنسبة 9 بالمئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي كما نما الاقتصاد البرازيلي بنسبة 7ر2 في المئة في الاشهر الثلاثة الماضية بما يتجاوز توقعات المحللين.
وبالتعاون مع فنزويلا خامس مصدر للنفط في العالم وصاحبة أكبر احتياطي نفطي خارج منطقة الشرق الاوسط باحتياطي مثبت يتجاوز 211 مليار برميل استطاعت البرازيل التي يبلغ عدد سكانها 190 مليون نسمة تحقيق اندماج اقتصادي وتكتل سياسي في جوارها الجغرافي وأقامت تجمع ميركوسور الاقتصادي الذي يهدف الى الانخراط في عملية التكامل الاقليمي بين دول القارة الجنوبية كما عمدت فنزويلا الى قيادة بزوغ البديل البوليفاري للاميركيتين البا عبر تزويد دول الكاريبي بالنفط الفنزويلي بأسعار تفضيلية واقامة سوق الجنوب ككتلة اقتصادية تجارية تكاملية وبنك الجنوب برأسمال مالي اقليمي للاستغناء عن صندوق النقد والبنك العالميين التي ترى فيهما أداتي الغرب في استغلال ونهب بلدان العالم الى جانب مجلس امن أمريكي لاتيني للحفاظ على الامن والسلام وفض النزاعات بين دول أمريكا الجنوبية.
والى جانب البرازيل التي تعتبر المصدر الاول للغذاء في العالم تعمل فنزويلا ثالت اكبر مصدر للنفط الى الولايات المتحدة الى تقليل الاعتماد على سوق الولايات المتحدة التي تعد المستهلك الاول للنفط الفنزويلي فعملت على زيادة صادراتها النفطية الى أسواق اسيا مثل الصين بهدف تنويع الاسواق حيث زادت صادراتها النفطية الى الصين العام الماضي بنسبة 21 بالمئة لتصل الى 460 الف برميل يوميا مقابل تراجع تزويدها للولايات المتحدة عند حدود 827 الف برميل يوميا وهي أقل بنسبة الثلث عن العام الماضي.
بموازاة ذلك تحمل تجربة الاقتصاد الارجنتيني الذي تجاوز أصعب أزمة انكماش مابين عامي 1996-2002 في طياتها العديد من العبر حول جدوى الاليات المالية في نمو واستدامة الاقتصادات الوطنية وبرامج الاصلاح الاقتصادي التي اعتمدتها من خلال معادلة البيسو بالدولار والاشراف على المؤسسات المالية وفتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الاجنبية.
وتعتبر الارجنتين الى جانب البرازيل المصدر الاول للسلة الغذائية في العالم حيث تتصدر دول العالم بانتاج زيت الصويا والطحين وتحتل مكانة عالمية مرموقة في انتاج فول الصويا واللحوم والمرتبة 13 بالانتاج الزراعي على أساس حجم الصادرات.
ولم تكتف هذه الدول بتطوير اقتصاداتها واعادة رسم الخارطة السياسية للقارة اللاتينية بل انطلقت الى الساحة الدولية فقادت البرازيل الى جانب دول في اسيا مثل الصين والهند محادثات الدول النامية في منظمة التجارة العالمية للحد من تحكم الدول الغنية بالمؤسسات المالية الدولية وتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة في وصول منتجاتها الى أسواق الدول الكبرى كما سعت بالتعاون مع الهند واليابان الى ادخال اصلاحات الى مجلس الامن الدولي وتوسيع رقعة المشاركة فيه لتشمل دولا جديدة اذ ترى هذه الدول ان المجلس لم يعد يحقق العدالة ولا يعكس التطورات التي ظهرت في النظام العالمي الجديد وبروز قوى صاعدة على الساحة الدولية ولم يعد مقبولا الحديث عن حلول لمشاكل العالم دون الاخذ بنظرها وحتى اللجوء الى مساعدتها في كثير من القضايا السياسية الحساسة.
وأدركت الدول الصاعدة في أمريكا اللاتينية ولاسيما البرازيل ان المراهنة على الدخول الى مجلس الكبار ولاسيما سعيها للحصول على مقعد دائم في مجلس الامن الدولي لن يكون بالانكفاء والاكتفاء بالعمل على ارضاء الولايات المتحدة بل من خلال لعب دور متوازن والتحرك عبر دول جنوب جنوب بالتعاون مع قوى اقليمية صاعدة مثل تركيا وايران فاتخذت معظم دول القارة اللاتينية مثل فنزويلا والبرازيل والارجنتين وكوبا مواقف متوازنة في المحافل الدولية حيال الصراع العربي الاسرائيلي ودعمت حق الفلسطينيين باقامة دولتهم المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 ووقف بناء الاستيطان وانسحاب اسرائيل الكامل من الاراضي العربية المحتلة بما فيها الجولان السوري المحتل كما كان بارزا موقف الرئيس شافيز حيال العدوان والحصار الاسرائيلي الجائر على قطاع غزة وضرورة كسره بكافة السبل وقطعت أربع دول لاتينية علاقاتها باسرائيل وهي فنزويلا وبوليفيا ونيكاراغوا وكوبا التي كانت قد قطعت علاقتها مع اسرائيل عام 1973 .
واتخذت معظم دول امريكا اللاتينية مواقف قوية ضد جريمة القرصنة الاسرائيلية بحق اسطول الحرية في عرض المياه الدولية ودعت الى معاقبة اسرائيل على فعلتها وطالبتها برفع الحصار عن قطاع غزة ووقف الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة.
وجاءت القمة العربية اللاتينية التي عقدت منها قمتان الاولى في البرازيل عام 2005 والثانية في الدوحة عام 2009 كخطوة في الانفتاح اللاتيني تجاه الشرق الاوسط وتجسيد لرغبة الدول اللاتينية بايجاد قوة دبلوماسية في المنطقتين اللتين تتبنيان سياسات مناهضة للعولمة بمفهومها الغربي ولسياسة القطب الواحد التي تتحكم بالقضايا الدولية اضافة الى الرغبة في الحد من الاعتماد على دول الشمال الغنية وتعزيز التحالفات بين الدول النامية في المنتديات الدولية كالامم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي وغيرها.
وهذا المنتدى الذي دعمته سورية بكل قوة وساهمت في بروزه يهدف الى ايجاد تكتل بين العالم العربي ودول أمريكا اللاتينية يسمح للدول النامية بالعمل على قدم المساواة مع الدول المتقدمة ويسهم في زيادة حجم التعاون السياسي والاقتصادي بين دول الجنوب جنوب وصولا الى الاستقلال الاقتصادي بدل انتظار المساعدات من الدول المتقدمة الى ما لا نهاية فشكلت اجتماعات القمة العربية اللاتينية حجر أساس لتعاون عربي لاتيني واسع وشامل يضع اطارا للحوار بين المنطقتين ويسهم في زيادة ورفع التعاون الزراعي والتجاري والصناعي والعلمي بين المنطقتين.
وتأتي جولة السيد الرئيس بشار الأسد المقبلة الى القارة اللاتينية في بعديها السياسي والاقتصادي الهامين ولاسيما مع وجود جالية سورية كبيرة يقدر عددها بعشرة ملايين في دول القارة في اطار تعزيز التعاون بين سورية وهذه الدول انطلاقا من رؤيتها الاستراتيجية بعيدة المدي وضمن التوجهات السياسية القائمة على المساهمة في اعادة تشكيل النظام العالمي الجديد على أسس أكثر عدالة وتوازنا بعد عقود من هيمنة سياسة القطب الواحد التي جرت العالم الى ويلات الحروب وأثارت العنف والفتن في أكثر من مكان في العالم.
وبرز دور دول القارة اللاتينية كلاعب دولي متمثلة بالبرازيل مع دخول تركيا القوي في قضايا المنطقة فاضطلعت بدور سياسي اقليمي وعالمي يتناسب مع ثقلها الاقتصادي المتنامي فكان الاتفاق الثلاثي لتبادل الوقود النووي بين ايران وتركيا والبرازيل كوسيلة لايجاد حل عادل للخلاف بين ايران والدول الكبرى بشأن الملف النووي الايراني فنجحت حيث فشل الكبار الذين تفاوضوا حول الملف باسم المجتمع الدولي على مدى سنوات.
ومن هذا المنطلق صوتت البرازيل مع تركيا ضد العقوبات التي فرضها مجلس الامن على ايران مؤكدتين الحل الدبلوماسي والحوار كطريق وحيد لحل الازمة الايرانية.
وترى البرازيل التي تقود التحرك اللاتيني الصاعد ان الجدل الدائر حول الملف النووي الايراني يشكل فرصة لانعاش النقاش حول نظام منع الانتشار النووي برمته ولاسيما ان تطبيق هذا النظام يخضع لاستنسابية القوى الكبرى ويتم تطبيقه بشكل انتقائي بحيث يتم التركيز على ملف ايران النووي بينما تتجاهل هذه الدول الترسانة النووية الاسرائيلية.
والقمة العربية اللاتينية لم تكن الخطوة الوحيدة التي خطتها القارة اللاتينية على المسرح الدولي فشاركت البرازيل بشكل فاعل في ولادة تجمع دول البريك التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وكذلك قمة ايباس التي تضم الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والتي رأى فيها الرئيس دا سيلفا أنها منظمات تعبر جيدا عن الجغرافيا الجديدة السياسية والاقتصادية التي يعيشها العالم في بداية القرن الحادي والعشرين.
وتكمن أهمية هذه المنظمات في ان المحللين يتوقعون ان يتخطى ناتج بريك عام 2032 ناتج مجموعة الدول السبع بعد أن يتخطى ناتج الصين والولايات المتحدة عام 2027وهذا يعكس طموحات هذه الدول كما يقول وزير الخارجية البرازيلي سيلسو أموريم في خلق عالم يكون فيه صوت الجميع مسموعا أكثر وليس استبدال أرستقراطية مجموعة الدول الثماني القديمة بأرستقراطية أخرى وخصوصا أن التجمع يرى ان هيمنة الدولار كان عنصرا أساسيا في تفشي الازمة المالية العالمية.
كما أن هذه الدول الصاعدة ومن بينها البرازيل تبدو مؤهلة لاستغلال بعض الطاقات البديلة كرافعة لدورها ومركزها العالمي من خلال ما يعرف بالوقود الحيوي بيو فيول أو كاليابان التي تعمل على تطوير تكنولوجيا جديدة تعمل على رفع كفاءة الطاقة التقليدية أو البديلة والمتجددة.
ويحمل هذا المشهد دلالة بالغة الاهمية على بروز مراكز القوى الصاعدة ويرسل اشارات واضحة بأن هذه القوى تحمل شرعية التفاوض باسم المجتمع الدولي لحل نزاعات كبرى منهية بذلك حقبة احتكار الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الامن حق التفاوض والحديث باسم المجتمع الدولي كما يعطي دلالة كبرى على فشل سياسات العزل والعقوبات التي روج لها الغرب كأداة وحيدة لتسوية الخلافات الدولية.