سوى رغبة بعض أقاربها البعيدين، بالاستيلاء على الأراضي التي ورثتها عن أبويها، فنسجوا هذه المكيدة لها.
واستمر احتجازها خلف الأسوار العالية ثلاث سنوات، وحين افتضح هذا الأمر البشع أمام الرأي العام اللبناني، نقلت إلى مشفى آخر من أجل تضليل العدالة، عندها ذهبت طائفة من الأدباء الكبار إلى النيابة العامة وطلبوا منها التدخل السريع فانتقل النائب العام إلى المشفى المذكور وقابلها وراعه أنه وجدها في حالة ذهنية سليمة وبعد هذه المقابلة الحاسمة جاء إليها مدير الشرطة ومعه ستة من الضباط المسلحين وأخرجوها من المشفى بقوة القانون في موكب فريد، انتظم فيه عدد كبير من سيارات الأصدقاء والمعجبين بأدبها الرومانسي، وانطلقت الزغاريد وأبواق السيارات معاً، لتعزف سيمفونية رائعة في سماء بيروت.
وبعد أن استراحت في بيروت ثلاثة أسابيع عادت إلى القاهرة، ونزلت في شقة أنيقة استأجرتها لنفسها مؤلفة من غرفتين صغيرتين، واعتزلت جميع أصدقائها وأغلقت صالونها الأدبي الذي كان يستقبل كبار المبدعين والأدباء، لاعتقادها أن الجميع لم يكونوا أوفياء لها في محنتها.
وفي هذه المرحلة الأخيرة من عمرها التي استمرت أكثر من عامين، كانت تتذكر أيامها الذهبية، وتقرأ بعض كتبها القديمة، وتبكي على وفاة جبران الذي راسلها أكثر من مرة وبثها لواعجه وأشواقه الحارة، وربما أمضت ما تبقى من الليل في شغل لوحة قماشية بالإبرة..
وعلى سرير أسود في غرفة باردة يسكنها الصمت العتيق تلوت امرأة هزيلة الوزن في خريف عمرها من الجوع الشديد، حيث امتنعت عن تناول الطعام منذ ثلاثة أيام.
وعند منتصف الليل كان شهيقها المتقطع يحاكي تنهد الطفل وهو يختنق، فإذا مي جاحظة المقلتين، صفراء اللون لاتقوى على الجواب بغير إشارة خفيفة جهة القلب، وأنفاسها المتلاحقة تزداد ضيقاً في كل لحظة، حتى كانت الساعة العاشرة من صباح التاسع عشر من شهر تشرين الأول عام 1941 فارتعش السرير وتأوهت مفاصله المعدنية تحت جسد مي المنهار.. كانت خفقة القلب المعذب الأخيرة، على حد تعبير الأديب جميل جبر مؤلف كتاب مي في حياتها المضطربة.
كانت جنازتها في غاية التواضع والبساطة والتقشف: نعش رديء الصناعة قد أغلق بإحكام سار وراءه لطفي السيد أستاذ الجيل وأنطوان الجميل أحد أصحاب جريدة الأهرام والشاعر خليل مطران وصديقتها المخلصة إيمي خير وثلة من بقايا أصدقاء زمنها الجميل وحين وصل هذا الجمع إلى المكان الذي سيضمها وقف لطفي السيد يؤبنها بكلمات مؤثرة، والدموع تتساقط من عينيه وقد ذكر الموقف الجميع بما كتبته مي في كتابها النثري ظلمة وأشعة قائلة: هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات وفي قلبها الآلام والغصات ولقد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت ثم قضت.