فخلال ثلاثة عشر قرنا سبقت هذا الفلكي البولوني,ظلت وجهة النظر الإغريقية التي قال بها بطليموس مسيطرة على الفكر البشري,وظل الناس قانعين مقتنعين في مشارق الأرض ومغاربها,أن الأرض هي مركز العالم وأن الكواكب تدور من حولها!
كوبرنيكوس,عكس هذه الآية...وأحدث ذلك التغيير الجذري في علم الفلك مؤكدا أن الشمس لا الأرض هي مركز العالم.
وإذا كان صحيحا أن القرن السادس عشر هو في الآن ذاته قرن النهضة الأوروبية فصحيح أيضا أنه كان بداية تلك السلسلة التي توالت حلقاتها في القرون التالية,وعرفت الإنسانية معها,إضافة الى المعلومات والأفكار الجديدة,ثورات حقيقية في الأفكار المتداولة.فلم تعد هندسة (اقليدس)المستوية مثلا هي الهندسة الوحيدة.
صارت هناك هندسات أخرى مختلفة,بعضها يتصور المكان كرويا,وبعضها يراه أسطوانيا.ولم تعد علوم الميكانيكا والفيزياء والكيمياء الخ..كما عرفتها الحضارات خلال سنين طويلة,سوى في البحر الخضم الذي انتهت في القرون التالية: الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين...
وباستمرار كان تعديل نظم المعرفة القديمة,هو الحركة الأساسية في تطور العلوم.. وكل يوم ,نقرأ جديدا في هذا المجال.وعلى سبيل المثال تشير الى الكتابين الذين صدرا في لندن وكانا يدوران حول فكرة واحدة هي تكذيب ما أسمياه خرافة نصفي الدماغ.فالشائع حتى الآن أن دماغ الإنسان يتألف من نصفين اثنين الأول هو المسؤول عن الجوانب الخيالية والثقافية والعاطفية والكلية في حياة الإنسان وهذا هو الشطر الأيمن,والثاني وهو الأيسر مسؤول عن الجانب البارد,الجانب الموضوعي,العلمي,المنطقي,التحليلي في حياة الإنسان.
وكما توضح مجلة (العالم الجديد) البريطانية التي تحدثت عن هذين الكتابين,فإن مؤلفيهما استندا الى التجارب التي أجريت على عدد كبير من الناس,صحيحي البنية أو مصابين بتلف ما في الدماغ,بما في ذلك تسجيل الأمواج الدماغية وقياس مقدار تدفق الدم عبر الدماغ في سائر الأحوال.ومن طرف آخر أجرى العلماء في هذا الميدان تجارب من نوع الإبطال المؤقت لأحد نصفي الدماغ عن طريق حقن الشريان السباتي بعقار معين.
ويمكن القول إن الكتابين انتهيا الى تبديد المعتقد القديم والتأكيد بأن دماغ الإنسان يشكل وحدة كاملة,لا تمييز فيها بين يمين ويسار.ومثل هذا التبديل الجوهري في بعض نظم المعرفة,يمكن الحديث عنه مع الكشف العلمي الكبير الذي جرى في ألاسكا,إذ عثر قريبا في الدائرة القطبية على عظام مئة وخمسين ديناصورا..وتقول المعلومات الأولى المتوفرة حول هذا الكشف ,إنه يشكل نقضا للنظرية القائلة إن الديناصورات انقرضت جماعيا,دفعة واحدة قبل خمسة وستين مليون سنة,بعد أن صعدت في الجو سحابة من تراب وغبار,بفعل تساقط مذنبات أو نجيمات على الأرض...ما أدى الى حجب أشعة الشمس أسابيع أو شهورا.
والفكرة الجديدة تقول إن هذه الزواحف العملاقة لم تنقرض دفعة واحدة,ذلك أنها كانت قادرة على العيش شهرين على الأقل في الظلام الدامس والشتاء القطبي.
بلى إن التقدم العلمي الذي استطاعت البشرية أن تحققه هو من الوفرة والضخامة والتنوع بحيث يعجز الإنسان عن الإحاطة به...
لقد كان (الحصان الطيار) و(بساط الريح) و(مصباح علاء الدين) و(العصا السحرية) في الآداب القديمة,العربية والأجنبية...بين الرموز التي تعكس تطلعات الإنسان الى اختراق الحجب والحواجب الفيزيائية التي تحول بينه وبين الانطلاق نحو الأوسع الأرحب..الأبعد...وتحدث العلماء الإغريق والعرب,في حدس علمي مدهش عن (الجوهر الفرد) ..وها هي ذي الإنسانية بعد خمسة وعشرين قرنا,ليست شيئا في عمر الكرة الأرضية ,تحقق الأحلام جميعا.. وتتقدم..تارة تصيب وتارة تتعثر.. لكنها في جميع الأحوال تظل مندفعة نحو الأمام..