قبل أشهر من وفاته..كان يحدثني على الهاتف وهو يرقب الذكرى المئوية لميلاده. وقال لي: أنت مدعو لحضور الحفل المرتقب مع نخبة من الأصدقاء وسوف يكون الحفل في داره في بيروت.
أيها الراحل الكبير
كأنك لم تحتمل هول الفظائع الوحشية التي تنهال على بيروت ولبنان في شهر تموز, فآثرت الرحيل خلال ذلك الشهر الدموي الرهيب..ولم يتح لبيروت المنكوبة أن تودعك الوداع اللائق.
قرن كامل من العطاء المعرفي والعلمي والأكاديمي..وحضور لافت في جامعات العالم..وحضور يحمل روح العربي المشرقي المنزرع في أرض وطنه الكبير.
نقولا زيادة..اسم أكبر من الكتب والمؤلفات..وأعمق من الذكريات وبقايا الصور..
حينما زارنا في حلب في مطلع تسعينات القرن الماضي..لم يقبل أن يلقي محاضرته إلا واقفاً, ولم يقبل أن يتكئ على أي شيء..وحينها أجال نظرة عميقة في الحاضرين, وبدأ محاضرته بدعابة ذكية قائلاً:
لقد زرت مدينتكم حلب قبل أن يولد أي واحد منكم, كان ذلك عام 1922 وسأله أحد ظرفاء الحضور: هل كان ذلك قبل الميلاد أم بعده?!.
انطلق نقولا زيادة يحدثنا عن رحلته الأولى الى حلب..والتي وصلها مع أحد أصدقائه مشياً على الأقدام مخترقاً طرقات بلاد الشام التي كان يجب أن يطلق عليها هذه التسمية..كيف لا وهو الذي في مولده وحياته وتنقله الصورة الحقة لبلاد الشام.
كان مولده في دمشق, حيث كان والده يعمل موظفاً في مؤسسة الخط الحديدي الحجازي..وأبواه فلسطينيان من الناصرة وأسرته عريقة معروفة في فلسطين.
حينما قدمته ليلقي محاضرته الأولى لدينا في جمعية العاديات في حلب قلت: إنه الرجل الذي يختصر في شخصيته بلاد الشام جغرافياً وتاريخياً واجتماعياً..فهو الفلسطيني الأصيل, المولود في دمشق, والعائد الى فلسطين ليدرس ويتخرج من دار المعلمين في القدس عام ,1924 ويمارس التعليم في رحاب فلسطين العربية قبل أن يطعنها خنجر (بلفور) المسموم بالصهيونية العالمية.
وفي فلسطين يطوف معلماً في ترشيحا وعكا والقدس حتى 1947 وخلال ذلك كان يتابع دراسة التاريخ في لندن ليحصل في عام 1950 على شهادة الدكتوراه في موضوع (سورية في العصر المملوكي الأول) وبقي أستاذاً للتاريخ الإسلامي في الجامعة الأمريكية في بيروت حتى .1973 واستمر فيها أستاذ شرف بعد تقاعده وهكذا ربط بلاد الشام بشخصه وعلمه من الناصرة الى دمشق الى بيروت.
طاف نقولا زيادة جامعات العالم ينقل صورة المؤرخ العربي الموضوعي, ويقدم الصورة الحضارة عبر التاريخ الإسلامي العريق, وقد ساعدته ثقافته الشمولية, وإتقانه عدداً من اللغات الأجنبية كالانكليزية والألمانية واليونانية واللاتينية, الى جانب تبحره باللغة العربية علماً وأداءً وأسلوباً في أعماله الكاملة التي صدرت قبل سنوات في ثلاثة وعشرين كتاباً يلخص نقولا زيادة رؤيته التاريخية ومنهجه العلمي. ويوزع دراساته في عناوين مختصرة مكثفة معبرة من ذلك كتبه:
شاميات-لبنانيات-أفريقيات-مشرقيات-عربيات-أفروسيات-متوسطيات-صفحات مغربية.
الى جانب كتبه الأخرى المتخصصة وأتوقف عند كتابه الهام (المسيحية والعرب) الذي يعتبر من أهم الدراسات الموضوعية التي نحتاج إليها في هذه الظروف العصيبة التي يحاول فيها كثيرون زرع الشقاق والخلاف بين الأخوة العرب مسلمين ومسيحيين.
كثرت زيارات شيخنا المؤرخ الجليل نقولا زيادة الى مدينة حلب..ولم يكن يتردد في قبول أي دعوة لإلقاء محاضرة أو مشاركة في ندوة وكان يقول لي ممازحاً:
-سوف أحضر الى حلب ويحضر معي الأصدقاء ليكي يصفقوا لي.
وفي كل مرة كان يحضر نخبة من الباحثين والأكاديميين يشاركون في الندوات التي كنا نعقدها في رحاب جامعة حلب بالتعاون مع جمعية العاديات:
-ندوة (الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي).
-ندوة ابن حزم الأندلسي.
-ندوة لسان الدين بن الخطيب الأندلسي.
-ندوة قراءة معاصرة في تاريخ الدولة العثمانية.
وأذكر أن نخبة ممتازة وكبيرة من الأصدقاء الباحثين من لبنان قد حضروا للمشاركة في هذه الندوة.
وكنا في كل مرة نغتنم فرصة وجود المؤرخ الكبير, فنرجوه أن يلقي كلمة الباحثين في حفل الافتتاح, وأن يترأس الجلسة العلمية الأولى, وأن يكون له ورقة بحث في الندوة, وأن يشارك في حفل الختام وتوزيع الشهادات وتكريم الباحثين.
وهو في ذلك كله شعلة من النشاط والحيوية والذاكرة اليقظة والذهن اللماح, والحديث الممتع الظريف.
وفي رسائله التي احتفظ بها باعتزاز كان يردد دائماً أن مدينة حلب فيها قلعتان: قلعتها التاريخية بعمارتها الباذخة, وقلعتها الفكرية التراثية المتمثلة بجمعية العاديات التي تأسست عام .1924
هذه الجمعية التي وقف مؤرخنا الكبير يلقي المحاضرات من على منبرها مرات ومرات..وكأن ذهنه جهاز كمبيوتر يختزن المعلومات ويرتبها ويعرضها بمهارة وإتقان.
شيخ ملأ جوانب القرن العشرين..عاش أفول الدولة العثمانية..ودخول قوات الاحتلال الفرنسي والانكليزي, وشهد استقلال بلاد الشام وبقية الأقطار العربية, وعاش الأحداث الجسام في القرن العشرين بطوله وعرضه, فكأنه رجل يمثل ثلاثة أجيال أو أربعة, لم تقعده الشيخوخة عن الكتابة ,لا القراءة ولا متابعة الأحداث ولا جلسات الأصدقاء. وكانت كتاباته في الأشهر الأخيرة قبل رحيله في زاوية بعنوان (من قرنتي) في إحدى المجلات الأسبوعية.
وحينما أهديته كتابي (محطات أندلسية) لم أتوقع أن يقرأه بهذه السرعة, وأن يكتب عنه ملخصاً ونقداً في مجلة (المشاهد) وكنت وإياه على موعد أن يكتب في مقدمة لكتابي (حلب والمتنبي) ولكنني تأخرت في إنجاز الكتاب..فوافاه الأجل قبل أن يتحفني بكتابة تلك المقدمة.
أية ذكريات إنسانية مع الرجل العظيم الذي لم تعرف الشيخوخة طريقها إليه. حينما أهداني كتابه النفيس (أيامي) بمجلديه الاثنين كان إهداؤه المختصر كأنه مقدمة كتاب, وبخطه الجميل الأنيق ولغته التي لا يمكن أن تتسرب إليها أية شائبة.
وفي دارنا المتواضعة كان الشيخ الجليل يتبادل الحديث مع كل أفراد الأسرة بحيوية ومودة وبما يتلاءم مع سن كل واحد منهم واهتماماته.
فكأنه في مقتبل الشباب, وكأنه في نضوج الكهولة, وهو الشيخ الزاحف نحو المائة من السنين.
وفي دارته العامرة في بيروت كان ملتقى الأصدقاء والأدباء والباحثين, وكم حضرنا هذه اللقاءات الدافئة الغنية بفكرها وإنسانيتها وحوارها المتنوع, وقصائد الشعر التي تلقى فيها. وشيخ المؤرخين يستقبل ضيوفه بمصافحته للرجال وقبلات للنساء.
ولست أنسى الموقف الطريف في حفل تكريمه في الجامعة العربية في بيروت حينما قدم إليه درع التكريم من قبل شخصية سياسية هامة, ولما هم هذا الرجل بمعانقة المؤرخ الكبير وتقديم الدرع له..ابتعد نقولا زيادة خطوة وقال له مداعباً:
(أتريدني أن أغير عادات ألفتها تسعين سنة, لقد أمضيت عمري وأنا أصافح الرجال وأقبل النساء, ولن أغير هذه العادة).
وصافحه, وتسلم الدرع, وضجت القاعة بالتصفيق.
كان رحمه الله دائم المرح والانفتاح النفسي, وكأنه في مطلع شبابه, فإذا جد جد الحديث رأيته ذلك العالم الواثق الذي يتحدث بالوثائق والتفاصيل الدقيقة من غير زيغ ولا زيف ولا بهرجة. وقد علمته السنون السبعون التي قضاها في التعليم والبحث كيف يعرض أفكاره بمنهجية عالية, وبفن رفيع في إيصال المعلومة المحددة الدقيقة, وبقدرة عجيبة على الإمساك بجمهور مستمعيه من غير ملل ولا انصراف عن حديثه.
في إحدى محاضراته في جمعية العاديات لدينا في حلب وقف ساعة كاملة يتحدث عن صناعة الورق وصلتها بانتشار الكتاب في التاريخ الإسلامي, واستطاع أن يشد الأنظار بصورة مدهشة حتى نهاية حديثه.
وفي مؤتمر للحوار بين ضفتي المتوسط وقف المؤرخ الكبير يلقي محاضرة عن جغرافية البحر المتوسط وأثرها في تكوين حركة الشعوب والتاريخ والحضارات, وكانت المحاضرة باللغة الانكليزية, وبقينا معلقين بحديثه وحركاته طيلة ساعة كاملة.
إنه الرجل الذي تفوق على عصره بأجياله الثلاثة, الرجل الذي دخل بوابة التاريخ عالماً باحثاً مؤرخاً موسوعياً, كما دخلها إنساناً يشع ظرفاً ومرحاً وخفة ظل يوزع المحبة حيثما حلّ.