تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حين يحضر حفارو القبور..!

آراء
الأربعاء 6/12/2006
أ.د. حسين جمعة

السلوك الإنساني نتيجة طبيعية للنظام المعرفي الثقافي الذي يتكون في الحياة سواءً كان فردياً أم جماعياً أم دولياً, أي إن المنهج الذي يتبعه أي منا إنما هو خلاصة لتراكم تاريخي من المعارف والآراء والتقنيات و..

وفي صميم هذا التراكم تتركز الخصوصية المعرفية الحاملة لرؤية ما, وهي رؤية مميزة لهوية الشعوب والدول, ووسيلة للتعاون فيما بينها وفق مبدأ المصالح المشتركة. ولكن أي امرىء ينظر الى الجاري في عالم اليوم يدرك أنه لم يعد مبنياً على هذه المصالح المشتركة, وإنما غدا معتمداً على المصالح الذاتية على انقاض الحرب العالمية الثانية.‏

ووفق هذا التصور ننظر الى الدول العربية التي أفرزتها اتفاقية سايكس بيكو في (15/5/1916 م), وهي الدول التي عززتها الدول الأوروبية الاستعمارية المنتدبة عليها إثر الحرب العالمية الأولى, اذ سعت بكل ثقلها الى تفتيت الوحدة الثقافية الجامعة لها, فضلاً عن تفتيت الوحدة الثقافية بينها وبين الدول الإسلامية, وهي وحدة ألفت بين شعوبها حتى أواخر الخلافة العثمانية سنة(1909م).‏

وتبعاً للمنطق المعرفي الذاتي والجمعي فإن الإنسان يطور معارفه في ضوء المثاقفة مع الرؤى النظرية التي يتعرف إليها ويتفاعل معها, ويقتنع بها ما يجعله ينحاز الى أجزاء منها أكثر من غيرها. لهذا وجدنا ميلاً عند كثير من الناس الى الأفكار الغربية إبان عصر النهضة, وبالمقابل وجدنا في القرن العشرين أناساً آخرين يميلون الى الفكر الاشتراكي, على حين لايزال آخرون يعتمدون الفكر الثقافي الديني أساساً لثقافتهم. هذا ما أفرزته المعارف الحديثة في ضوء النظريات التي انفتحت عليها الجماعات والأفراد والدول, ومن ثم تبنت ما يوافق طبيعتها الذاتية والخصائص المعرفية التي تميزها, وفق الانتماء الأصيل الذي تستند إليه.‏

فأي ثقافة تستجيب إليها القاعدة الاجتماعية إنما تعد الثقافة التي تحفظ لها كينونتها, باعتبارها الثقافة الحارسة لها, والمحافظة عليها من الانصهار في غيرها والذوبان فيها, من خلال التكامل والحوار الفاعل والايجابي.‏

من هنا نجد أن ثقافة المقاومة تعد الثقافة الجامعة لأبناء الأمتين العربية والإسلامية والأصيلة في الدفاع عن هويتها, على اعتبار ما تتعرضان له من طمس وتدمير للتراث وللوجود, فالشعب العربي ما تبنى المقاومة المسلحة وعمليات الاستشهاد حباً في الموت, وإنما درءاً للخطر المتمثل بهجمة الإدارة الأمريكية المتصهينة على العرب والمسلمين ولا سيما أن الخطر الأعظم عليهم قد تطور بعد نشوء دولة الصهاينة بقرار أممي سنة (1948م) تحملت مسؤوليته بريطانيا بعد أن رعت بذور الفكرة الصهيونية في القرن التاسع عشر, ثم وعدت بإنشاء كيان لها في (2/11/1917م), إنه نشوء أعاق التقدم والارتقاء في المنطقة, باعتباره لم يقدم لهذه الدولة وجوداً حضارياً ثقافياً معرفياً, وإن قدم لها العالم الرأسمالي الغربي الوجود والحضور الدولي, ومدها بكل مكونات الدولة المدنية التي تملك العلوم والتقنيات والأسلحة المتطورة.‏

أما الثقافة الهجينة التي تقوم عليها هذه الدولة فإنما هي ثقافة غربية عجيبة مغايرة لكل الأعراف الإنسانية ولكل التقاليد التي تشكلت بموجبها الدول في العالم, ولهذا فإنها أكثر غرابة من وجود الدولة العبرية لأنها ليست نتيجة طبيعية للتطور الاجتماعي الثقافي الذي تتميز به الدول. ما يعني أن ثقافة الدولة العبرية - مهما ادعت أنها مدنية وعلمانية- إنما هي ثقافة استعمارية احتلالية استيطانية استئصالية عنصرية استعلائية تنبثق من خرافات دينية مغايرة للقيم الدينية والإنسانية, وتستند الى إلغاء الآخر العربي, وتصمم على أن تقضي عليه.‏

لذلك فرضت على العرب مواجهة لا بد منها للدفاع عن الذات والوجود, وجعلتهم يتبنون ثقافة المقاومة عن الحياة بوسائل عديدة تجتمع فيها الأدوات المعنوية والمادية, دينياً وفكرياً وعسكرياً, وطنياً وإنسانياً, ومن ثم فإن الثقافة العربية والإسلامية ثقافة يتكامل فيها التحرر الوطني بالإنساني, لأن هدف هذه الثقافة إنما يتوجه الى تحرير الإنسان من ربقة الذل والقهر والاستعباد.‏

من هنا تكمن النظرة الى ثقافة المقاومة, ومن خلالها يتجلى الصمود البطولي الأسطوري للمقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله على اعتبار أنها تتركز حول التمسك بالوجود والحرية والاستقلال, لقد كشفت المقاومة الوطنية اللبنانية خلال (33) يوماً من اندلاعها يوم (12/7/2006) أن الدولة العبرية تكره الحياة والبراءة والحرية وكرامة الإنسان ما دفعها الى تحويل عدوانها الهمجي- حين عجزت عن النيل من المقاتلين- الى قتل المدنيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ وتدمير البنى التحتية, لأنها كرهت فيهم تمسكهم بأرضهم على اختلاف انتماءاتهم, وكرهت فيهم ان يكونوا حاضنين للنضال الوطني التحرري.‏

ولم تكن الرؤية الى المقاومة مطردة عند الناس جميعاً, ومتوحدة فحين نرى في المقاومة الوطنية اللبنانية أنها حرب وطنية وقومية وإنسانية يراها عدد آخر من المعادين أنها حرب تصب في غاية واحدة تتجلى في الاتجاه الديني لحزب الله. إننا نرى في انتصار المقاومة الوطنية اللبنانية انتصاراً لكل عربي وكل حر شريف.‏

لقد فرضت المقاومة العربية على حفاري القبور ولعقة دم الابرياء من الاطفال والنساء والشيوخ ومدمري الحجر والمدر نقول: فرضت عليهم الاعتراف باستحالة الحل العسكري في العراق كما اعترف به وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد الذي كان أول ضحايا العراق حين قدم استقالته إثر هزيمة حزبه في الانتخابات الامريكية الأخيرة وكما اعترفت به وزيرة خارجية الكيان الصهيوني تسيبي ليفني إثر عدوانها على لبنان حين قالت ليس بإمكان أي جيش في العالم نزع سلاح حزب الله.‏

لهذا فإننا حين نحتفل بنصر المقاومة فإنما نحتفل به على قاعدة محاربة القهر والجبن والخوف والظلم والاستعمار بكل أشكاله.‏

إنها الرؤية نفسها التي تضع أي مقاومة وطنية في سياق المقاومة القومية والانسانية لأن جبهة النضال التحرري واحدة في العالم كله وما يؤيد هذا الاتجاه ذلك الموقف النبيل الذي وقفه العديد من دول العالم وزعمائها وفي طليعتها فنزويلا بقيادة هوغو تشافيز دون أن نغفل المواقف الاوربية الشعبية التي تشاءمت من قيادة أميركا للعالم.‏

لذلك كله لم يبق لنا إلا تعزيز ثقافة المقاومة وممارستها قولاً وفعلاً في وجه حفاري القبور ولعقة الدم وهي وحدها سبيلنا الى التحرر من أقفاص الذل والعبودية, بالمقاومة نحافظ على كينونتنا وسيادتنا وهي وحدها تخلصنا من القتل اليومي الجماعي الذي لم ينتج لدينا حتى الآن إلا مزيدا من الادانة على أو راق لا تساوي قيمة الحبر الذي نكتب فيه ومزيداً من البكاء والصراخ للثكالى والمقهورين ومزيداً من المساومين المهادنين الخائفين, ومزيداً من ثقافة المبادرات والانفتاح على الآخر المعتدي وقبوله على الرغم من أنه غاصب لأرضنا.‏

ومن هنا فإننا نتساءل: أين هي تلك المبادرات التي قبلنا بها أو دعونا إليها منذ قبول القرار(242) والقرار(338) واتفاقية كامب ديفيد (1979) واتفاق وادي عربة واتفاقية أوسلو (1993)??! وأين هي مبادرة السلام العربية التي اجتمع عليها العرب في قمة بيروت عام .2002‏

وأين خارطة الطريق? وأين عملية الانفتاح على الغرب والحوار معه على أساس المساواة والعدل?‏

ما النتيجة التي آلت اليها كل هذه الأمور? إنها نتيجة واحدة مؤداها أن رؤية الدوائر الغربية للمنطقة قد تراجعت عما كانت عليه وازداد تجاهلها لمصالحنا وعظم تأييدها لإسرائيل , بل إن ادارة بوش المحافظة والمتصهينة شددت حربها الهمجية على العرب والمسلمين في الداخل والخارج.‏

فالغرب لم ير فينا القوة المادية والمعرفية والتقنية اللازمة له, فنحن - في زعمه- ضعفاء متخلفون معرفياً وفكرياً وما علينا إلا أن ننصاع له وإلا فقوته المتوحشة لنا بالمرصاد.‏

لهذا كله لم يبق لنا إلا ثقافة المقاومة الحقيقية مادياً ومعنوياً للدفاع عن وجودنا وحقنا الطبيعي في الحرية والاستقلال والسيادة.‏

ونحن قادرون عليها, فالمقاتل العربي في لبنان وفلسطين والعراق قد أثبت قدرته العالية على إجادة اللغات والمعارف وإتقان التعامل مع السلاح المعقد أياً كان نوعه, وقدرته على سرعة المناورة في ساحة المعركة والإعلام والكلمة, في الوقت الذي أثبت أنه يملك عبقرية فذة في تطوير أدائه القتالي وأدواته القتالية مهما كانت بدائيتها , سواء في استخدام كمائن الطرق, أم تطوير القذائف من مواد بدائية, ومخلفات عسكرية, أم في استخدام صاروخ الكاتيوشا الذي وصفه كثير من الخبراء بأنه صاروخ( أهبل) لأنه لا يحتوي على أجهزة موجهة لإصابة أهدافه بدقة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية