عبارة (دمشقنا) كانت العبارة التي جعلتني أتوقف عند مشاعر كاتبها وهو بعيد عن أرض الوطن بآلاف الأميال.
عندما غادرنا مع ذويه في أواخر خمسينات القرن الماضي,رأيته يلتفت الى الوراء مودعا قبل صعوده على درج الطائرة.عيناه كانتا معلقتين بمودعيه وهم يلوحون له بأيديهم,والبعض منهم كانت عيونهم تدمع.
في رسالته التي تلقيتها بعد أكثر من نصف قرن من الزمن,كان السؤال الأول الموجه إلي:حدثني عن حارتنا .حدثني عن معارفنا من منهم غادر الحيّ أو البلد, ومن هم الذين ما زالوا أحياء? ولكن قبل كل شيء,لا تنس أن تصف لي حينا حجرا حجرا,شجرة شجرة,دكانا دكانا.
قرأت الرسالة عدة مرات. في كل مرة كنت أشعر بغصّة في حلقي.لم يكن سهلا عليّ أن أصارحه بأن الحي نفسه لم يعد على قيد الحياة لأنه أزيل منذ سنوات وحل محلّه مبنى حديث.وفي الوقت نفسه أحجمت عن تعميم هذه الظاهرة في معظم أرجاء المدينة التي تغزّل فيها بقوله(دمشقنا).
بعد أكثر من نصف قرن من الزمن,لا يمكن أن تستمر معالم أية مدينة على ما هي.
حين بدأت أفلسف له هذه المقولة,أمسكت عن متابعة الكتابة في هذا السياق.حاولت وصفها بأنها صارت مدينة حديثة بكل معنى الكلمة: ثمة جسور وحدائق وساحات مضاءة ونوافير وشوارع عريضة ومع هذا تكاد لا تتسع للسيارات من كل نوع ومن كل جنسية.حاولت بذلك إيجاد ما يبرر قولي بأن زوال الحيّ,كان عملا استدعته عمليّة تجميل موقع الحيّ في سياق تحديث مظهر المدينة.
حتى هذا التبرير لم أقو على تبنيه,إذ لم أكن قادرا على الانقلاب على ذاتي لأن (دمشقنا),وهي المدينة الوحيدة بين مدن العالم التي استمرت فيها الحياة منذ أن كانت,ولأن ضواحيها قادرة على استيعاب كل جديد,وصولا الى الحداثة المنشودة,بدءا بالشام الجديدة كمثال على ذلك,وصولا الى ما وراء ضاحية يعفور.
في نهاية رسالته أبدى ندمه لأنه يحمّلني عبء الكتابة بصراحة حول ما يسمعه من شباب الوطن,عندما يحضرون الى حيث يقيم بسبب الدراسة,فيجده مناقضا لما ارتسم في ذاكرته البصرية يوم غادر(دمشقنا) وهو في مثل أعمارهم ولهذا اشتد حنينه إليها,وإلى معرفة ما آل إليه الحي الذي ولد ونشأ فيه.
(دمشقنا) هي هي يا صديق الطفولة والمراهقة. أناسها كما عرفتهم طيبون وأوفياء لتاريخ الوطن وحاضره.معالم المدينة ربما لم تعد كما تعرفها قبل سنوات طويلة.
المهم أن أبناءها كما هم.ولكن لم ينفعهم أنهم استنكروا ويستنكرون نزعة الجشع التي أزالت حينا القديم,وأحياء أخرى,وحقولا كانت تحيط ب(دمشقنا) القديمة ليحل محل معالمها الأثرية ما لا حصر له من معالم بديلة تكاد تشعرك أنك غريب في بلدك.إنها طبيعة التطور يا صديقي,فكما لم تكن(دمشقنا) في الخمسينات مثلما كانت في أوائل القرن وما قبله,كذلك هي اليوم رهن معادلة التطور التي فعلت فعلها خلال سنوات مضت وسوف تستمر في فعلها هذا خلال سنوات مقبلة.
أتصورك,ياصديقي,تقرأ هذه الأسطر كما قرأت لي مؤخرا مقالا ذكرك بي,أتصورك غير مقتنع.ولكن هذا هو الواقع.حينا كان جزءا من عملية اعتداء على تاريخ(دمشقنا) وآثارها التي عاشت مزهوة آلاف السنين حتى وصلت الى زمن اختراع المعاول والجرافات الآكلة للحجر والشجر لتضع حدا لهذا الزهوّ.وأشكرك على رسالتك.