ثم يأتي الوهم ليجهز على ما تبقى من قواعد وطاقات فيفتعل مسارات جديدة ويجذب إلى المجهول فعل الإنسان العربي وفاعليته وفي المحصلة تخرج حيثيات الأمة من التداول وكأنما هي مهزومة بذاتها أو أنها ماعادت تصلح للطرح المتجدد واكتشاف معالم الحراك السياسي والثقافي في كل خطوة يحاول العرب إنجازها, وهكذا تنشأ في واقعنا أزمتان متداخلتان, أزمة البناء المغلوط بصيغها وآليتها وأزمة الانقلاب على هذا البناء بطريقة الهدم المتعمد ومحو كل الآثار التي تدل على المأزق الحقيقي .
ولعله في هذه الفكرة, أعني في منطق المجازفة والوهم يستنزف الجهد وتضيع المعالم وتتوه حركة التقويم والتفعيل ثم نضطر إلى أن ندخل في غيبوبة الرثاء والبكاء من ناحية وإلزامية الاكتفاء والانكفاء من ناحية ثانية, إن المأزق في الواقع العربي وهو يتشظى إلى مجموعة غير محدودة من المآسي والاختلاطات لايشكل أزمة حقيقية فالتجاهل للازمة هو الخطر أما الاعتراف بها فهو المقدمة الأولى والأهم الإدراك الأولي لما يجب أن يكون عليه الحال العربي ولقد يلوذ الكثيرون بأسوار اليأس والقنوط ويبنون المواقف على أساس من التسليم المطلق بالهزيمة وبقصد أو بغير قصد يمهد هؤلاء للحلول الجاهزة أو المستوردة أو المجزوءة في حين أن المنطق يرتكز إلى ثلاثية منهجية معروفة, وأتصور مثال هذا المنهج في قواعد السياسة السورية الراهنة. والبند الأول في الثلاثية هذه هو تجذير الثوابت وإعطاؤها فرصة زمنية تاريخية ومساحة واسعة حتى لا تختنق هذه الثوابت تحت وطأة السلبية القاتمة والإخفاقات القائمة, والعزل في هذا البند ضروري للغاية بين ثوابت لاتتغير ولكنها لم تجد فرصتها للنمو أو الظهور الجزئي وثوابت نراها غير قابلة للطرح ولا للتبني ولا لمجرد الوقوف على أطلالها, إن الأسهل والأرخص معا هو أن تندفع السياسات العربية بهذا الاتجاه, فإذا ما فشل ثابت التجربة الوحدوية مرة بعد أخرى نقلنا المعيار من سوء النوايا والتطبيق إلى مفهوم الفكرة الثابت ووقعنا في مطب أن مبدأ الوحدة نفسه هو الخطأ وليس طريقة التعاطي معه أو أساليب التعامل مع هذا الثابت هي التي تشتمل على الخطأ والخلل وهي التي تؤذي ليس الناتج المطلوب فحسب بل تتسلل أهواؤها وأخطاؤها إلى فكرة الوحدة كثابت قومي, وإذا مادخلنا في مثال ثان كالحرب المشروعة مع العدو الصهيوني أعطينا الأهمية للهزائم المتكررة وتجاوزنا سبب الهزيمة فينا ثم انجذبنا للأسهل والأرخص المتمثل في أن نقلع عن عادة الدخول في حروب مع العدو دفاعاً عن حقنا واسترجاعاً لأرضنا تحت مسننات الوهم الضاغط بأن هذا الثابت هو المستحيل وهو المغلوط بذاته, ثم إذا دعمنا هذين المثلين بثالث من خلال النظرة الحاكمة لموقفنا في علاقتنا مع الولايات المتحدة الأمريكية فإذا بنا نستجمع أجزاء ذاكرة وتطبيقات من شأنها أن تقول إن العرب لم يفهموا أمريكا جيدا ولم يتعرفوا على مزاياها في حمايتنا وفي دورها بأن تبقينا على قيد الحياة وهكذا فإن الثابت الذي يقوم على قاعدة المصالح والحوار الحضاري ومبدأ الندية ومزية تكوين الشخصية الذاتية يصبح أشلاء لابد من إلقائها في مستودع النفايات والاستعاضة عن ذلك كله بالتسليم المطلق بالمنطق الأمريكي والدور الأمريكي معاً, إنها لعبة الوهم والاستبدال واللغة السياسية الحاضنة لهما والموصلة بهما إلى ما نحن فيه من ضياع ومعاناة وتآكل.
والبند الثاني في المنهجية يقوم أساساً على فكرة أن نبدأ بالممكن لنصل إلى المطلوب, أي أن ندخل مباشرة في صياغة (البدوة) وهي البداية الراسخة من جهة والقابلة للنمو والتطور عمقاً وأفقاً من جهة أخرى, والبدايات الصحيحة بهذا المعنى تؤسس لفعل متحرك ولنمو متزايد من خلال التحريك الدؤوب والاستفادة من أي عامل أو قاسم مشترك في الحياة العربية ومن أي قدر أو مقدار من المواقف العربية وإن كانت غير مرضية, لكن الإشكالية الخطرة هنا هي أن الكثير في المواقع السياسية والنخبوية والحزبية يحاولون إظهار عبثية لحظة البداية وهم يدركون تماماً أنه لا مسيرة إلى الأحسن والأعلى إلا من البدايات الصحيحة, ولذلك نرى أن الوضعية السياسية الراهنة في الوطن العربي تحاول أن تنسف مقولة البدايات السليمة بحجة عدم صلاحيتها وبتمهيد إرادي لشراء المواقف الجاهزة من الآخرين حتى ولو كان هؤلاء الآخرون أعداء واضحين مثل الكيان الإسرائيلي أو أعداء مضافين مثل الولايات المتحدة الأمريكية, ويزين الضلال لهذه المجموعات أن العرب ما داموا يملكون قوة الشراء والاستهلاك في المنسوب الاقتصادي والتكنولوجي فإنه بإمكانهم استغلال هذه الخبرة في شراء الحلول ممن يصنعها على هواه وقده في المدن والعواصم القابعة خلف البحار والمتحكمة بمصائر البشرية كلها ويبدو هنا أن صراعاً سوف ينشب بين القوى التي تنجز البدايات وتحميها وبين القوى التي تحاول نسف هذه القصة من أساسها لأنهم يعلمون تماماً بأن البداية المتحركة تكبر مساحة وتأثيراً وتستدعي مناطق صحة وسلامة وتضخ خصوبة المنطق والقرار إلى مواقع جافة أو هي محرومة من مادة الحياة السليمة على الأقل, ولعله في حمى هذه النقطة فإن لوثة كبرى تظهر في الواقع العربي الراهن منها:
- الوقوع في مطب خيارين فاسدين: الاستسهال والتضخيم أو كلاهما معاً بحيث لا تتشكل معقولية الانسجام مع النواة المتحركة ولا يفتح الأفق أمام عوامل الجذب أن تضيف مداميك جديدة للبدايات المتواضعة وهكذا تنتمي السياسات العربية إما إلى التصغير والاستسهال واللامبالاة أو إلى التضخيم المتعمد بحيث نلغي أنفسنا مرة ونلغي وعينا بالعدو والخطر والمصاعب مرة أخرى.
- الاندفاع والتراجع بصورة مجانية وبخطوات غير محسوبة, فهناك من يقفز في المجهول تحت وطأة الذات المتضخمة ولا ينتج سوى الكارثة كما هو الحال الراهن وهناك من يختفي تماماً ويجر معه في الاختفاء القضية والإنسان وشروط المصير وهو يرى أنه قد تضاءل وتضخم ولم يعد يملك أي مقوم للإحساس بالذات والبدء بعمل يلغي هذه الحالة.
- وفي اتجاه آخر تفرض اللوثة نفسها من خلال نمط وأسلوب التعامل في الواقع العربي مع القضايا المصيرية والعناوين الكبرى في حياتنا المعاصرة, فهناك على الدوام من يؤمن بفكرة أن موقعاً ما وليكن نظاماً أو حكومة أو زعيماً يقوم بالدور كله نيابة عن الجماهير وعن تاريخية الحدث وعن مجمل مستلزمات البناء بالمعنى المادي والسياسي والموقفي, إن هناك خللاً واضحاً في إنجاز فكرة (فرض الكفاية) في فهم الواقع السياسي ومحاولة بناء مظنة الخلاص منه وهنا تعزل الجماهير عن قضاياها بشعارات منمقة مرمومة وباستمرار هناك من يفكر عنا ويقاتل عنا وينهزم عنا ويرثي عنا.
إن ثمة قوى سياسية في الوطن العربي ترى في أن مفهوم الشركة وليس الشراكة هو الذي يجب أن يعتمد في اسلوب التقويم للجماهير وفي نمط استغلال طاقة الإنسان وليس استثمارها.
ويتبقى الثالث في منهجية العمل والتعامل مع الواقع العربي والذي يقوم أساسا على فكرة ضرورية هي أنه حينما لا نربح يجب أن لا نخسر على الأقل والعطاء والفداء وتسديد فاتورة الموقف واستحقاق الانتماء الوطني والقومي لايدخل في مفهوم الربح والخسارة إن الألم الكثير والتضحيات الأكبر ليست عوامل تبديد أو مفردات خسارة أنها مقومات بنائية هي التي تأخذ بالموقف والثوابت إلى الانتصار النهائي ولا يحق لأحد أن يدعي بأن الدم العربي هو هدر للنفس البشرية وبأنه علينا أن نصمت أو نستسلم لكي نصل إلى لحظة رضا العدو عنا عندها نوفر العطاء لنخسر الحياة كلها هناك الآن في مساحات إعلامية كثيرة وثقافية أكثر من يروج لفكرة الصمت والخروج من مأزق العمل المقاوم والبذل الكريم وبموجب ذلك فإن المعادلة تصبح مقلوبة ونصبح مطالبين بأن نوفر الشهادة والشهداء وبأن لا نتعرض للقصف والهدم والتفجير لأن ذلك ثمن مجاني حسب رأيهم وما ضر أن تتساقط القضايا وينتفي المصير ونفقد الكرامة مقابل أن نلغي فكرة العمل الوطني وتيار البذل والعطاء بثمنه المرتفع,
إن بنود المنهجية الثلاثية هذه هي ليست في التداول رغم أنها تحكم كل مفاصل الحياة العربية هذه البنود هي الآن التي تتحرك من جحورها لكي تستدعي إلى الواقع العربي عاملين مضافين بديلين الأول منهما إعادة صياغة المقومات العربية وثوابت الحياة القومية على قواعد وافدة ونسق جديد من التأسيس المشؤوم المبتكر بحيث تنتهي بل وتنتفي قصة الانتماء الوطني والقومي والحضاري والإنساني لكي يستقبل الوطن العربي انتماء مخترعا رفضته كل أجيال التاريخ العربي يقوم على الانقسامات الدينية ما بين مسلم ومسيحي و النزعات الإثنية مابين كردي وعربي والارتهانات المذهبية ما بين سني وشيعي وعلى هذه العوامل البديلة المضافة أن تستولي على مقاصد الأمور وان تحتكر بلغة الحجز والربا منطق التكوين المطلوب في هذه اللحظة بحيث يدخل التعصب والعصبية معا إلى عمق حياتنا وان ترحل تلك المقولة البسيطة المعروفة بدون رجعة حيث لاحد يباعدنا ولادين يفرقنا والثاني من العاملين المضافين البديلين هو التمحور حول الخاص والانجراف نحو التجمع العشوائي والعاطفي على محاور كالمذهب والطائفة والاثنية الضيقة والانقلاب هنا مزدوج كما هي الإساءة مزدوجة فالدين والطائفة والأصل القومي جميعها عوامل ايجابية نعتز بها وقد أنجبت لنا مسيرة قومية حضارية هي الأولى في العالم ونعتز أكثر بمنطق من تعاملوا مع هذه العوامل حيث رأوا فيها حالة التحول من الخاص إلى العام ومن الفكرة إلى التجسيد وكان كل منبع فيها يصب في حقيقة واحدة موحدة يغنيها ويقتني بها ويتكامل المجموع العربي في هذا المنطق ويصبح التنوع عامل وحدة ومحرض موقف وقوة حماية من التآكل أو التشظي أو الاقتتال اليوم يريدون هذه العوامل سهاما مسمومة قتلا وتدميرا ويدغدغون الأحلام الموبوءة والعقول المحاصرة بأن هذا هو خيار الله والإنسان والتاريخ وبأنه لا مجال للوحدة بل لا مجال للتعايش لأن الحياة والتاريخ كليهما ليسا قائمين إلا في هذا النمط من الانتماء الضيق المتشنج وتصبح حياة كل جماعة هي بموت الآخر وقوة كل جماعة بضعف الآخر إنه الانقلاب المر والمرير الذي يحاول أن يتسلل إلى أكبر مساحة.