فمياه البحر المتوسط أصبحت اليوم مساحة مائية قد تذهب للدول للتنازع عليها عسكريا، حيث تصاعدت في الآونة الأخيرة حدة التوتر بين دول شرق البحر المتوسط التي تسعى جميعها للحصول على ما تراه حصتها في حقوق الغاز، سواء تلك المكتشفة أو التي لم تكتشف بعد.
فحسب بيانات هيئة المساحة الجيولوجية الأميركية والشركات العاملة في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، فإن المنطقة تعوم فوق بحيرة من الغاز يقدر مخزونها بنحو 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، و1.7 مليار برميل من احتياطيات النفط.
في البحر الأبيض المتوسط على امتداد أكثر من ١٢٠ كيلومترا من الساحل فوق الجهة الشرقية لدلتا النيل في بور سعيد كنز مدفون تم اكتشافه في عام ٢٠١٥ من قبل شركة «إيني ENI» الإيطالية اسمه حقل ظهر للغاز الطبيعي.
ويعد ظهر من أبرز الحقول المكتشفة في المنطقة حتى الآن والذي يتوقع أن يكون تحولاً محورياً في قطاع الطاقة المصري إذ يحتوي حقل ظهر على ما يقدر بنحو ثلاثين تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي في مساحة مئة كيلو متر مربع وهو ما يعادل قرابة خمسة تريليونات وخمسمئة مليار برميل من النفط.
هذا الحقل وبعد تطويره سوف يكون قادراً على تلبية حاجة مصر من الغاز الطبيعي عشرات السنين كما سيقلل من الاعتماد على النفط المستورد من الخارج والذي يرهق الميزانية العامة للدولة والعملة الأجنبية أيضاً نظراً إلى التكلفة الباهظة للنفط المستورد.
الحقل يحتوي على ١٠ خزانات منفصلة، بعضها على عمق ٢٠٠٠ متر تحت قاع البحر، متصلة بالمنصة الرئيسية عن طريق مجموعة معقدة من الكابلات الهيدروليكية والتي يبلغ طولها نحو ٢٢٠ كلم، ومنصة الإخراج في حقل ظهر لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الهيلوكبتر.
وفي عام 2018 دخل حقل ظهر المصري حيز الإنتاج، ومن خلاله أعلنت مصر عن اكتفائها الذاتي من الغاز الطبيعي منتصف خلال العام 2019، كما أن ميزانها التجاري البترولي حقق نحو 9 ملايين دولار فائضاً في 2018-2019، إلا أن هذه الأرقام تشمل حصة الشريك الأجنبي التي تقدر بنحو 40%.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن مصر أعلنت عن استراتيجيتها لتكون مركزاً إقليمياً لتجارة الغاز الطبيعي، من خلال خط الأنابيب المملوك لشركة غاز المتوسط - لكن للأسف هي شركة مملوكة لرجال أعمال مصريين «وإسرائيليين»- ليحمل هذا الخط الغاز الخاص بكل من قبرص وكيان الاحتلال الاسرائيلي إلى أوروبا، وتدافع مصر عن ذلك بالقول إن لها اتفاقية تطبيع مع اسرائيل. ويعد توفير الغاز الطبيعي بمصر يعني تشغيل أكثر من ١٨ مصنعاً متوقفاً عن العمل، وهو ما يدعم القطاع الزراعي، إلا أن الحكومة المصرية ستحتاج إلى قرابة أربع سنوات لتطوير الحقل، في حين تدرس الشركة الإيطالية «إيني» بدائل لاختصار الجدول الزمني لتنمية الحقل ليكون في وقت أقل من المعلن. اليوم في مرحلة أولى من العمليات يتم فعلاً استخراج ٢.٧ مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي يومياً من هذا الحقل، وبحسب خبراء فإن هذا الرقم سيرتفع في العام ٢٠٢٠ بنسبة ٥٠ بالمئة.
اكتشاف حقل «ظهر» سيفتح آفاقاً جديدة لاكتشافات أخرى، إذ ان منطقة البحر المتوسط في مصر من أهم الأحواض الترسيبية الحاضنة للغاز الطبيعي على المستوى العالمي، وإن هذا الاكتشاف قد يسهم في جذب مزيد من الاستثمارات لتكثيف عمليات البحث والاستكشاف لدعم الاحتياطات وزيادة الإنتاج الذي توليه وزارة النفط أهمية في إطار سعيها إلى تأمين احتياجات البلاد من المنتجات النفطية والغاز الطبيعي.
من جهة أخرى اكتشاف ثروة الغاز الطبيعي وتجارته في مصر، خلق واحدة من مجالات التنافس والصراع بين مصر وتركيا، وإن كان لها دلالاتها الأخرى السياسية والأمنية بالإضافة إلى بعدها الاقتصادي.
حيث أعلنت مصر أخيراً اعتراضها على اتفاق ترسيم الحدود بين ليبيا وتركيا، واعتبرته فاقداً للشرعية القانونية، لترد تركيا بأنها ستواصل تنفيذ الاتفاق دون النظر إلى «صراخ وعويل البعض»، وهو ما يدفع للتساؤل بشأن إمكانية تفجر صراع إقليمي على خلفية ثروة الغاز في شرق البحر المتوسط.
ففي آخر حلقة من مسلسل التصعيد بين مصر وتركيا على الغاز في المتوسط نشرت مصر في 12 كانون الأول الجاري مقطعاً لإطلاق القوات البحرية صاروخا من طراز «هاربون» المضاد للسفن من على متن غواصة في البحر المتوسط، وهو ما يعد رسالة استعراض للقوة، توجهها القاهرة إلى أنقرة، التي أبرمت مؤخرا مذكرات تفاهم وترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق في ليبيا، تسمح لتركيا بالمطالبة بحقوق في مناطق واسعة من شرق البحر المتوسط تطالب بها دول أخرى، خاصة اليونان، وهو ماوصفته أطراف في المنطقة بغير القانوني واعتبرته استفزازاً تركياً غير مقبول.