هو لايزال بإمكانه بتواضعه ...أن يبحث ويقدم لنا ما بعد (كونشيرتو العربي)وأكثر ممن أحن إلى خبز أمي، أو يطير الحمام،وجواز السفر ... تلك النغمات التي امتزج بها شعر محمود درويش ولحن مارسيل فخلقا لنا عالما موسيقيا لازلنا نحلم على وقع نغماته...
(مارسيل خليفة) هاهو قد أتى إلى دمشق ليهديها أحدث أعماله بقيادة الاوركسترا الفلهارمونية القطرية (الكونشيرتو العربي)...هو بالطبع حدث مهم لم يتركه التلفزيون السوري يمر مرورا عاديا ..فكان لنا معه حوارا خاصا أعدته وقدمته الإعلامية ديانا جبور.
الحوار مع (مارسيل) لايمكن أن يكون اعتياديا ..ليس صاحب تجربة موسيقية مميزة،بل إن المهم في هذه التجربة التجديد المتواصل الذي يعمل عليه ،والذي تمكن الحوار من كشفه لنا في الكثير من المحاور التي ذهب إليها..
المحاورة ديانا جبور لم تجعل مارسيل يحتاج إلى شرح موسيقاه الذي يعتبره خيانة،بل تمكنت بذكاء وحنكة المحاورة القديرة من أن تقودنا إلى عوالمه،لنفكك معها طريقته في الإبداع...بكلمة أو بدونها هو قادر على الوصول إلينا ،معه لاتصبح الموسيقا مجردة ،صدقها يجعلها تصل إلى أقصى أحاسيسنا...
خلف تلك الألحان التي تحركنا موسيقي ،يمتلك حسا مختلفا ،يدقق فيما يعمل،لايزال رغم كل هذه السنوات والبصمة الموسيقية التي خلفها يعمل بحرص مبدع مبتدئ،ينكفئ على اللحن وكأنه يختط أول وآخر أعماله...هذا النفس استشعرنا به ونحن نحاول مع المحاورة في البرنامج الدخول في عوالم موسيقي،لايزال يفكر كيف عليه يوميا أن يمارس فعل الكتابة الموسيقية،كيف يطور أدواته،كيف بإمكانه أن يصل إلينا أعمق فأعمق..
الأسئلة وطريقة صياغتها كانت بعيدة عن التقليدية،فيها نفس مختلف يفهم الموسيقا باعتبارها مرتبطة بعالم ثقافي له خطوطه التي يمكن التعامل من خلال الاقتراب من عوالم صنّاعها..إن فهمنا كيف يفكرون،وكيف يعملون،وما الذي يؤمنون به..سهلت علينا (جبور)الدخول في موسيقاه..ربما حتى لأولئك الذين قد يكونون مجرد عابرين على الموسيقا...
ومنذ البداية ذهبت بنا الأسئلة بسلاسة وعفوية إلى علاقته بالجمهور السوري،والكيمياء الخاصة التي تربطه به.انتقلت من البسيط وصولا للأعمق وكأنها تدخلنا رويدا رويدا..إلى عوالمه حتى إن اقتربت الأسئلة من نهايتها شعرنا أننا كنا معهم في رحلة ثقافية جعلتنا نمتلك مفاتيح مهمة ولمحات غنية تمكنت من تقديم توصيف تجربة مارسيل خليفة،السابقة والآنية وحتى تلك المستقبلية...
وبدت تلك المقطوعات الموسيقية من كونشيرتو العربي وكأنها تترك لنا فسحات من التأمل ،فسحة من المتعة،لتشدنا أكثر إلى حضور حي للكونشيرتو الذي قدّم بحضوره.
كانت تتركه يسترسل،كأنها تقول لنا استمتعوا بحديثه كما تستمتعون بموسيقاه، (ديانا جبور)ولم تكن تقاطعه إلا إن اضطرت كما في الالتباس الذي حدث حين تحدث عن أهمية الحياة فسارعت إلى تذكيره بضرورة التوضيح حتى لايحدث التباس(إن كان يعني الحياة بمعزل عن قيمة الوجود)...
نعرف جميعا المدى الذي يربط (خليفة)بالقضيةالفلسطينية،ولكن عّرفنا البرنامج عن الماهية التي يفكر فيها ..كيف يعمل على المقاومة بأسلوب الخاص ...هكذا نعرف أن الفن يصنعه الضعفاء والمظلومون لأن إحساسهم الإنساني مرهف...ينادي بأن نتعرف مجددا على الحب..وبضرورة أن نوسّع دائرة الرؤية...وأن أهم شيء بالنسبة له الإنسان هو أهم من الموسيقا..وكيف يعمل على تحريره...
اللقاء الذي ابتدأ بالكيمياء التي تربط (مارسيل خليفة) بالجمهور السوري،انتهى وهو يعرفنا إلى عوالمه الحميمية أقرب أصدقائه محمود درويش،ومعاناة الفقدان، علاقته بأولاده،زوجته...هكذا كما أدخلتنا (جبور)إلى اللقاء بأجواء حميمية أخرجتنا بحميمية ..لن ننساها قبل أن نتذوق طعم لقاء آخر لها .
كاميرا البرنامج كانت تلاحق الضيف في تلك المحاور التي تدرك أن تعابيره وحركات يديه تحتاج لرصد،وتبتعد لتظهر لقطات عامة للاستديو حين يبدو الحديث عموميا،أما حين يقترب من الخصوصي والإنساني وحتى الوطني،فإنها تقترب لنرى مدى الصدق الذي يعطينا إياه...
التشكيل البصري الذي صممه المهندس هيثم عوض وان بدا أنه بسيطا إلا أنه كان معبرا ،بلونيه الأزرق والأسود،حيث أعطى وقارا للحوار تتلاءم مع مضمونه والأفكار التي عبرت إلينا...
مارسيل خليفة تابع صنع البرنامج خطوة بخطوة كما اخبرنا مخرج البرنامج سعيد الجراح،ومهندس الغرافيك مردا الناطور..حين أصر على أن يتابع كل تلك التفاصيل،الأمر الذي يكشف لنا ذهنية تحترم كل تفاصيل عملها، ويكشف لنا من ناحية أخرى عن قدرات فنية يضمها تلفزيوننا ،عندما تجد توظيفا صحيحا فهي ترتقي إلى مستو ى الحالة لتتكامل كل أدوات العملية الفنية،متمكنة من جعلنا نمضي وقتا ممتعا نتمنى أن نعيشه مرارا..