لن أعلق على النغمة النشاز في اختيار التوقيت لهذه المحاضرة الذي أضاف خطأ في الشكل هو ثانوي جدا بالقياس إلى أخطاء المضمون مما تثيره أمثال هذه التآليف والتصانيف، وإذا كان للمحاضرة بعض فضل فذلك أنها أعطتنا الفرصة لنؤكد حقائق، ونجلو الغبار عن أفكار يجب ألا يخبو بريقها، ومنها:
1- إن تحويل أي لهجة من لهجات أي لغة من المستوى الشفاهي إلى المستوى الكتابي يعني تحويلها من لهجة محلية محكية إلى لغة منفصلة تماماً عن اللغة الأم.. تظل اللهجة المحكية- في كل لغات العالم- في حدود المقبول ما دامت أداة تواصل يومي شفاهي، فإذا انتقلت إلى المستوى الكتابي، صار لزاماً أن توضع قواعد لكتابتها، وضوابط لنطقها وأحكام لتراكيبها وهو ما يحولها إلى لغة مستقلة وهذا ما صرح به المحاضر، إذ إنه يريد أن يكون قاموسه ليس لمفردات اللهجة العامية بل ولقواعدها أيضا لذلك فهو يسمي اللهجة العامية (لغة)، وما أظن أن من المثقفين العرب من يقبل بأن تتحول اللهجات العامية العربية إلى لغات تتصارع على الأرض العربية، لأن في هذا اعتداء على لغة الأمة الواحدة، فإذا كان ذلك هو غرض السيد المحاضر فليرح نفسه من هذا العناء، فقد أخفق كل من سبقه إلى العمل في هذا الميدان والعاقل من اتعظ بغيره.
ومما قاله المحاضر في بعض ردوده على المداخلات : إنه لا يسعى إلى تخريب العربية الفصيحة، فإذا كان تحويل اللهجات العامية العربية المتقاربة إلى لغات منفصلة لكل قواعدها وضوابطها ليس تخريبا، فكيف يكون التخريب إذاً؟
2- كان من حجج المحاضر أن اللهجة العامية واقع حياتي وأن الناس يتعلمونها قبل الفصيحة في المدارس أو المعاهد، مع أن المحاضر يعرف أن هذه حال اللغات جميعاً، فهل عمدت أمة من الأمم الى تأليف كتب ومعاجم لتعليم أبنائها لهجاتها العامية قبل تعليمهم لغتها الصحيحة الرسمية؟
3- من المعروف أن ليس ثمة عامية عربية واحدة، بل عاميات بعدد الدول العربية بل بعدد المدن العربية، والأرياف العربية فهل سيعمد إلى تصنيف معجم لكل عامية محلية ليكون عندنا مئات المعاجم العامية؟
4- إذا كانت حجة بعضهم- كما ذكر في بعض المداخلات - أن هذا العمل توثيقي يرمي إلى حفظ العامية من الزوال فأطمئنه أن العاميات العربية باقية بصفتها أدوات تواصل يومي لبسائط الأمور الى جانب العربية الفصيحة لغة تواصل أدبي وعلمي وحضاري، وقد تعايش هذان المستويان من العربية مئات السنين وأسهما في حفظ التراث العربي كل في ميدانه، ولم يتوهم أحد من لغويينا إمكان القضاء على العامية بل كان همهم رفع مستوى العامية لتقترب من مستوى الفصيحة... بقيت العاميات إلى جانب الفصيحة دون حاجة إلى التوثيق، لسبب واحد هو عدم جدوى توثيقها لأنها متحولة متبدلة باستمرار، فعاميتنا اليوم ليست كعاميتنا قبل خمسين سنة.. وإلا لزم أن يؤلف كل عقد من السنين معاجم لمئات العاميات في الوطن العربي فهل يمكن قبول مثل هذا القول؟
5- إذا كان المحاضر يرى أن قاموسه سيعلي من شأن العامية لأنها لغة حياة يومية على حساب الفصيحة فهو واهم. وإذا قدر أن العامية سوف تسود في النهاية فهو أوهم لقد خمن زملاء له سابقون بأنه لن تمر خمسون سنة حتى تكون العاميات هي السائدة ، وتكون العربية الفصيحة في عداد الأموات، ولكن الذي ثبت وبعد قرن من الزمان وبعد موت أصحاب تلك النظرية، أن العربية الفصيحة حية صامدة وأن بناتها العاميات في طريقها إلى العودة إلى أحضان أمها العربية بفعل انتشار التعليم وبفضل الجهود الخيرة التي بذلها لغويون غُيُر على لغتهم العربية بمستوييها الفصيح والعامي، فرفدوا اللغة الفصيحة بما فصح وصح من ألفاظ العامية، وغزوا العامية بما لان وسهل من ألفاظ الفصيحة، وفي مقدمة هؤلاء المجددين اللغويين محمود تيمور وشفيق جبري وأحمد رضا العاملي.
6- إننا نقدر عاليا اعتزاز الفرنسيين بلغتهم الرسمية الصحيحة ونثمن غيرتهم تجاهها وجهودهم في المحافظة عليها، وهم الذين يشرعون القوانين لحمايتها فيحظرون استعمال المصطلحات غير الفرنسية في البحوث والمحاضرات، ويمنعون استعمال العامية الفرنسية في وسائل الإعلام، فكيف باستعمالها في التعليم؟ فهل تعمد منظمة (الفرنكفونية) إلى التمهيد لتعليم اللغة الفرنسية الرسمية بتعليم اللهجة الفرنسية العامية؟ وإذا كان في مثل هذا المنهج التعليمي خير فلماذا لم يأخذوا به الدول الأوروبية، أم إن، ما هو صحيح ومشروع في شرقي المتوسط يصبح غير صحيح ولامشروع في غربيه؟
فإذا كان المحاضر يرى أنه يقدم خدمة للعربية في تأليف معجم للعامية في سورية فلماذا لا يقدم هذه الخدمة للناطقين باللغة الفرنسية والراغبين في تعلمها، فيؤلف معجما في عاميتها وقواعدها.. .؟ فعلى حد علمي المتواضع، وعلم غيري من المختصين إن مثل ذلك المعجم ليس له وجود أو حضور.
7- نحن نقدر كل المستشرقين الذين كان لهم إسهام عظيم في الثقافة العربية وخدمة اللغة العربية. ولا ننسى أبدأ جهودهم الطيبة ولا فضلهم الذي يذكر ويشكر في كل محفل، لا يمكن أن ننسى أفضال (بروكلمان وفيشر ودوزي وغويدي) وأمثالهم ممن خدم اللغة العربية بصدق، ولكننا لن ننسى ولن نغفر لنفر قليل من المستشرقين الذين دعوا إلى تأصيل العاميات العربية وتجذيرها وتحويلها إلى لغات منفصلة مغايرة لأمها العربية من أمثال (سبيتاو ويلكوكس) الذين دعوا إلى ما يدعو إليه المحاضر الباحث ولكنهم لم يجنوا من دعوتهم إلا النصب وضياع الجهد ولوم أبناء العربية. فاختر أيها السيد المحاضر الموقع الذي تريد، يمكن أن يكون اسمك إلى جوار بروكلمان وفيشر ودوزي ممن خلدت الثقافة العربية سيرتهم وأحاطتها بالوفاء وعرفان الجميل، ويمكن أن تكون- ولا نرغب لك بذلك إلى جوار الطرف الآخر الذي خسر الرهان.
8- وصف عالم مختص باللسانيات أمثال هذه البحوث والتصانيف بمضاربات البحث اللغوي وأستميحه العذر إذا غيرت قليلا في عبارته لاسمي مثل هذه البحوث والمؤلفات بمضاربات الأسواق اللغوية ولكن إذا كان مضاربو الأسواق المالية قد حققوا بعض المكاسب المادية على حساب الاقتصاد العالمي وعلى حساب المجتمع ، فإن مضاربي الأسواق اللغوية لايسيئون إلى اللغة فحسب بل وإلى أنفسهم، وقد أصاب من قال لهم في بعض المداخلات: إننا نشفق عليهم من ضياع جهد ومرارة مردود.
9-ما لفت نظري في المحاضرة قول الباحث: إنه يعمل دون دعم من جهات رسمية أو خاصة وكأني به- إن لم أكن مخطئاً- يلتمس العون والمساعدة من جهة ما. فهل يطمح الباحث بأن يساعده أبناء أمة على مؤلف لايرمي في النهاية- ومهما قدم له من مسوغات- إلا إلى تمزيق لغتهم الواحدة إلى لغات وتخريب نظامها اللساني الذي هو من أعرق الأنظمة اللسانية في العام إن لم يكن أعرقها..
سمعنا عن ظالم طلب الصفح والمغفرة من مظلومه، ولكننا لم نسمع أن ظالما طلب العون من ظالمه لكي يساعده على أن يمعن في ظلمه!!.
10- وأخيراً ، فلا يظنن ظان أننا- بما قدمنا- نخاف على عربيتنا الفصيحة من أمثال هذه المضاربات اللغوية، فطالما طاشت سهام من رموها بالعقم، ومن وصفوها بالتخلف، ووسموها بالعجز ، فها هي ذي اليوم لغة آداب وعلوم وفنون وإعلام رصين مسموع، وهي إذ تشمخ بصمودها وتقدمها، ماتني تردد قول شاعرها:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأيسر ما يمر به الوحول.
عضو مجمع اللغة العربية