ونشر زوابع الغبار النووي الذي يسمم الهواء والتراب ويحرق النبت الأخضر، ويحيل المدن الآهلة الى خرائب خرساء لا أثر فيها للحياة!
كان ذلك في نهايات الحرب العالمية الثانية، حين اخترقت إحدى القاذفات الأميركية سماء هيروشيما اليابانية في عين الصباح ونفذت أولى الجرائم الحربية غالية الثمن، فألقت أول قنبلة ذرية على المدينة التي لم تكن قد فرغت بعد من مسح أجفانها من أحلام الكرى، فوجدت نفسها وسط كوابيس صحوة تشبه الجحيم، لا مفر فيها لأحد من الموت، اختناقاً أو احتراقاً أو رعباً يخطف الروح قبل لحظة الأجل المحتوم، ولمزيد من الثقة بجدوى هذه اللعبة الجهنمية كرر سلاح الجو الأميركي للتجربة فوق ناكازاكي اليابانية ثم تلا طياروه صلوات الغفران، وعادوا مرتاحي الضمير الى قواعدهم الحصينة، وفي عيونهم صور حية، ومشاهد لم يرها أحد من قبل لأرض محروقة تحت أنظارهم ومدينتين استحالتا وسط النار والدخان الى ما يشبه الرماد!
أفلام كثيرة ذهبت إليها مخيلة هوليود، كي ترسم مقطعاً افقياً لصورة هيروشيما وناكازاكي تحت وقع تلك الضربة المجنونة،. وأهوال ما أوقعته من صدمات روحية ومادية على مسرح انساني كانت الحرب تعصف به من كل الجوانب، وكتب كثيرة أخرجتها المطابع لمؤرخين وباحثين دونوا ميلاد تلك الجريمة النووية في سجلات تاريخ القرن المنصرم واختلفوا في محاكمة العقل البشري الذي وقع في كمين غواية العلوم الحديثة، فغاص في مختبراتها حتى استولد ذلك المخلوق الأعمى الذي لا يصلح إلا لتدمير الحضارة الانسانية أو محاكمة صاحب القرار السياسي والعسكري الذي ألقى خلف ظهره كل قواعد الحرب المتعارف عليها وذهب إلى الخيار الأقصى في إدارة الحروب، فلجأ إلى اشعال الجحيم فوق رؤوس البشر دون أن يرف له جفن!
ولكي لا يبقى خيار الجحيم احتكاراً أميركياً صحت مختبرات العلوم الحديثة سريعاً في القطب الآخر من العالم الذي كان الاتحاد السوفييتي يتربع على قمته، وانتشرت المفاعلات النووية خلف الستار الحديدي لاستيلاد ترسانة نووية ثانية تتطور سنة بعد أخرى بالتوازي مع المصنع النووي الأميركي الذي وفر للبشرية مخزوناً ذرياً يكفي لتدمير كوكبنا الأرضي عشرات المرات ثم انتقلت العدوى إلى بعض دول حلف الاطلسي، وبعدها دول شرق آسيا، وتحت غبار هذا السباق المحموم كان مفاعل ديمونا الصهيوني يصعد مدرج التسلح النووي بصمت حتى آخر لبنة في مصنعه الذري الخطير.
اليوم ، وقمة الأمن النووي تلتئم في واشنطن، وقد تسابق إليها أصحاب الأظافر النووية ، وممثلون لدول لم تكتشف البارود بعد ، نجد أنفسنا مطوقين بالأسئلة ! على عاتق من يقع الأمن النووي لعالمنا ، ومن يهدد هذا الأمن ، أصحاب القواعد الحربية النووية المنتشرة على اليابسة، والغواصات الذرية التي تطوف في المحيطات والبحار ، أم تلك الشعوب الناهضة التي تبحث عن مخرج لاستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية ، ومن يقلق أمن العالم ويهدد مستقبل الحياة على الأرض ، التجارب النووية التي تفجر باطن الأرض وتنذر بالزلازل المتنقلة بين أعماق المحيطات وطبقات الأرض المرتجفة، أم الأمم الضعيفة التي مازالت تزين وجه الأرض بالأعشاب والورود أملاً بحياة هانئة للبشر، ثم ماذا ينفع العالم تقليص القدرات النووية في معاهدة ستارت /2/ لمن يملك أكثر من تسعين بالمئة من المخزون النووي لدول الأرض ، مادام ما تبقى منه كافياً لإبادة الحياة على الأرض لعشرات المرات، أم أن خيار الجحيم لم يعد خيار طرف واحد دون الآخر في الشرق والغرب ، بعد أن أصبح في إحدى صوره المحتملة خيار شمشون الأخير!