والسيطرة على مفردات التكوين الواقعي، وتحسس إيقاعات الإتقان والتناسب والتوازن والتناسق، في خطوات تجسيد موديلات نسائية حية جالسة أمامه،لاسيما وانه يفضل رسم الوجوه النضرة (وجوه الفتيات) لأنها تحسن تلقي النور وتعكس رموز تداعيات الجمال الأنثوي، بذوق وإحساس مرهف، حيث كان يرسمهن بسهولة وبخطوط سريعة وحساسة ومتحررة، لدرجة أن الجمهور الفلورنسي، كان يتجمع حوله، ويلتقط له الصورالضوئية، ويراقب بمزيد من الدهشة والإعجاب،خطوات انجاز بورتريهاته، التي كان يرسمها بمواجهة الموديل الحي في الهواء الطلق.
مجال مفتوح
ويزداد هذا الشعور إذا شاهدنا الفتيات اللواتي رسمهن في مدينة الفن فلورنسا، وفي مدن إيطالية اخرى، وبورتريهاته بشكل عام، تميل أكثر فأكثر، رغم عفويتها، نحو الأمانة لدرجة الشبه بين الرسم والحقيقة، والإدراك هنا مباشر، ينبع من الداخل بعفوية وجرأة،تتميز بالبحث عن فضاء جمالي يوازن في إيقاعاته، ما بين معطيات الصياغة الأكاديمية والواقعية.
ولوحاته بالتالي تغري العين، وتمنح الموديل تجلياته المتجددة وزمنه المعاصر، ففن البورتريه لا يتجدد، إلا عبر الممارسة المستمرة،ومن خلال البحث عن صياغات جديدة، متجهة دائماً نحو إضفاء العفوية، والمزيد من الحرية والابتكار والرؤى الإسلوبية الخاصة.
وتبرز مرونة صياغاته الأكاديمية العفوية، التي يروي من خلالها حكاياته مع موديلات حية جالسة أمامه، وهو يمتلك قدرة لافتة على اختيار الزاوية المناسبة للجلسة أو الوقفة، في لوحات الوجوه، التي تتنوع، وتبدو مجالا مفتوحا على الاختبار، اختبار القدرة على الرسم والتلوين المفتوح على التلقائية والعفوية والحرية التعبيرية.
محاكاة سمات الأصل
فإذا أردنا تحليل الوجه الذي يرسمه، نجد أنه يجنح نحو المثالية في محاكاة سمات الأصل، بوضوح وعفوية وانسجام، دون أن يقع في فخ التأثيرات التسجيلية السهلة، وهو يعبر في النهاية عن أبجدية أو أسلوب أو طريقة خاصة، تستمد قوتها من مقدرته على رسم الوجه الواحد، بعفوية مستمدة من المدى العاطفي للمسة اللونية، التي تعتمد في أحيان كثيرة، الحركة السريعة والهادئة في آن (فالوجه على سبيل المثال غالباً ما نجده منفذا بعفوية، لا تمنعه من إبراز التوازن العقلاني المدروس والموزون على الصعيدين التكويني والتلويني).
هكذا أكدت طريقته في تجسيد الملامح واقتناصها ورسمها بلمح البصر، بأنه يمتلك مواصفات القدرة للوصول إلى الصياغة الأكاديمية المتحررة والواقعية الجديدة، حيث يبرز هذا الدمج الحيوي بين الأداء الأكاديمي، والبحث عن صياغة لونية جديدة و خاصةً.
ورسم البورتريه شكل بالنسبة لغسان صافية،الدافع الأول لإيجاد الركائز الفنية، القائمة على اسلوبية فنية متحررة، لها علاقة متينة مع المناخ الذاتي والحداثة التشكيلية. حيث استطاع خلال سنوات تجربته الطويلة،كشف أسرار ووسائل الرسم، بتقنيات مختلفة، وبالتالي وصل من خلاله،إلى مواصفات العمل الفني المميز بحيويته وحركته التعبيرية الشاعرية والغنائية.
وهذه المواصفات المتجددة لابد أن نلمسها إذا تتبعنا لوحاته التي قدمها، في مراحله المختلفة، وصولا الى أعماله التي أنجزها في مرحلته الإيطالية، والتي تجسد وجوه السيدات والفتيات اللواتي جسد وجوههن في فلورنسا، ويكفي أن نتأمل بعض هذه البورتريهات،حتى ندرك أنه أنجز في عاصمة عواصم الفن الكلاسيكي لوحات على مستوى متقدم وطليعي وحيوي.
اندفاع يومي
ومنذ سنوات انتساب غسان صافية إلى مركز أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية في دمشق، اكتشف اساتذته في ذاته هذا الهوس والعشق والاندفاع اليومي المتجدد للرسم بحيوية لافتة، ولقد حملت لوحاته منذ البداية نفحات من الإحساس الداخلي والعفوية الصادقة، حيث كان يتفاعل دائما بإحساس ذاتي، مع الموديل والرؤى الأخرى في أعماله التصويرية والنحتية، وكان يسير في إطار البحث عن حلول جديدة للتأليف التشكيلي والتقني الحديث والمعاصر، من خلال إيجاد تغييرات في الموضوع المستمد في أحيان كثيرة من الواقع والخيال والعناصر القديمة والحديثة معا.
هكذا حققت أعمال غسان صافية حالات البحث عن صياغة فنية خاصة، قائمة على لمسات اللون المتحرر، الذي يشكل مدخلاً لحوار حقيقي مع تنويعات الحداثة في فنوننا التشكيلية، وهذا يعني أن الفنان يبدو، حتى في بورتريهاته، أكثر اتجاهاً نحو البحث عن إيقاعات وجدانية وعاطفية وحديثة، تعبر بتلقائية عن انفعالات غنائية، وتصل بالتعبير، إلى حالات جمالية عصرية، من خلال ذلك الكسر الذي يحدثه ويبعده مسافات، عن التدقيق الذي يوحي بالمرجع الواقعي التسجيلي، فالمهم بالنسبة إليه أنه يجسد ملامح الوجه وتعابير العيون، بالارتداد إلى الداخل ليخرجه،من حيز صمته وليجدده أو يستنطقه بالبوح الانفعالي المباشر، ولهذا تتدرج الحركة العاطفية عبر تدرجات الحالة اللونية، من تلك التي تتجه نحو العفوية، من خلال اللمسات المتتابعة والسريعة، إلى المساحات والحركات والضربات العقلانية والهادئة.
وهكذا تصبح الحركات الخطية واللونية الانفعالية، مجرد وسيلة لتقديم الاسلوب الشخصي في موضوع البورتريه، والابتعاد به عن الصياغة التسجيلية السهلة، والصورية الواقعية الجاهزة، وبالتالي فهو يقيم علاقة مزدوجة بين الوجه المرسوم،والخلفية اللونية عبر الضربات المتتابعة لفرشاة الألوان، بحركاتها الانسيابية والتلقائية والعفوية والمباشرة.
facebook.com/adib.makhzoum