تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


أوتار.. فكأن العشق يؤدي للجنون..... وكأنه أيضاً يميت

آراء
الخميس 8-4-2010م
ياسين رفاعية

اثنان جنا عشقا، وكذلك، اثنان ماتا حباً

الأول «مجنون بني عامر، هو قيس بن الملوح وليلى حبيبته» وكانت من أجمل النساء جسما وعقلاً وأفضلهن ادبا وألمحهن شكلا.‏‏

والثاني: قيس بن ذريح‏‏

قال الجاحظ: ما ترك الناس شعرا مجهولاً، لقائل قيل في ليلى الا نسبوه الى قيس بن الملوح ولاشعراً في لبنى إلا نسبوه الى قيس بن ذريح.‏‏

سأل أحدهم الجاحظ عن ليلى، فقال: لكل شاعر ليلاه‏‏

قيل: مر المجنون برجلين قد صادا ظبية فربطاها بحبل وذهبا بها فلما نظر اليها وهي تركض في حبالها دمعت عيناه وقال لهما: حلاها وخذا مكانها ناقة من ابلي، فأعطاهما وخلاها فولت تعدو هاربة، فقال:‏‏

أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني‏‏

لك اليوم من وحشة لصديق‏‏

وياشبه ليلى لو تلبثت ساعة‏‏

لعل فؤادي في جواه يفيق‏‏

تفر وقد أطلقتها من وثاقها‏‏

فأنت لليلى، لو علمت، طليق‏‏

وقيل: كان المجنون يقصد منزل ليلى الذي كان بيتها فيه فيلصق صدره به يجعل يمرغ خديه على ترابه ويبكي ويعود الى البراري،وكانت امرأة تصنع له طعامه وتأتيه به، وجاءت يوما الى الطعام فوجدته بحاله، وجاء أهله فطلبوه فلم يجدوه،وغدوا في الرابع يستقرون أثره فوجدوه في واد كثير الحجارة خشن وهو ميت، فاحتملوه فغسلوه وكفنوه ودفنوه، فلم تبق فتاة الا خرجت حاسرة صارخة عليه تندبه.‏‏

واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أحر بكاء وينشجون عليه أشد نشيج وحضرهم حي ليلى معزين وابوها معهم، فكان اشد القوم جزعا وبكاء عليه وجعل يقول: ما علمنا أن الأمر يبلغ كل هذا، لكني كنت امرءا عربيا أخاف من العار وقبح الأحدوثة ما يخاف مثلي، فزوجتها وخرجت من يدي، ولو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده ولااحتملت ما كان علي في ذلك ، قيل : فما رئي يوم كان أكثر باكية وباكيا على ميت من يومئذ:‏‏

ومن جميل شعره في ليلى:‏‏

تكاد يدي تندى اذا ما لمستها‏‏

وينبت في اطرافها الورق الخضر‏‏

هل الوجد إلا أن قلبي لودنا‏‏

من الجمر قيد الرمح لاحترق الجمر‏‏

وقال أيضا:‏‏

وكنت وعدتني ياقلب أني‏‏

اذا ما تبت عن ليلى تتوب‏‏

وها أنا تائب عن حب ليلى‏‏

فمالك كلما ذكرت تذوب‏‏

اما المجنون الآخر قيس بن ذريح إذا مر بخيام بني كعب بن خزاعة، فوقف على خيمة منها فإذا خيمة لبنى بنت الحبان الكعبية، فاستقى ماء فسقته وخرجت اليه به وكانت امرأة مديدة القامة، شهلاء، حلوة المنظر والكلام ، فلما رآها وقعت في نفسه وشرب الماء، فقالت له: اتنزل فتتبرد عندنا؟ قال: نعم فنزل بهم، وجاء أبوها فنحر له وأكرمه: فانصرف قيس وفي قلبه من لبنى قر لا يطفأ فجعل ينطق بالشعر فيها حتى شاع وروي،ثم أتاها يوما آخر وقد اشتد وجده بها، فسلم فظهرت له وردت سلامه وتحفت به، فشكا اليها وما يجده بها وما يلقى من حبها، وشكت اليه مثل ذلك فأطالت ، فانصرف الى ابيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوجه إياها، فأبى عليه وقال: يا بني... عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك، وكان الأب ثريا فلم يكن يريد أن يذهب ماله الى غير أهله، فتوسط الحسين بن علي لكن والد لبنى قال: على ابيه أن يأتي الينا فأتى الحسين ذريحا وقومه وهم مجتمعون.‏‏

فقال لذريح: أقسمت عليك الا خطبت لبنى لابنك قيس، فاضطر ذريح أن يخطبها لابنه وزوجه اياها،وزفت اليه، فشغلته عن أمه ثم أنه مرض مرضا شديدا فلما برأ من عملته قالت أمه لأبيه لقد خشيت أن يموت قيس وما يترك خلفاً وقد حرم الولد من هذه المرأة فزوجه لغيرها لعل الله يرزقه ولدا. فهذه لبنى ليست ولودا، وطلب منه أن يطلقها، فأجابه: الموت والله علي أسهل من ذلك، فألح ذريح عليه، فكان يخرج فيقف في حر الشمس ويجيء قيس فيقف الى جانبه فيظله بردائه ويصلي وهو بحر الشمس حتى يفيء الفيء فينصرف عنه، ويدخل الى لبنى فيعانقها وتعانقه ويبكي وتبكي معه وتقول له: ياقيس: لاتطع أباك فتهلك وتهلكني فيقول: ماكنت لأطيع أحدا فيك أبدا ثم مكث كذلك سنة ثم طلقها ولم يلبث حتى استطير عقله وذهب به مثل الجنون، وتذكر لبنى فأسف وجعل يبكي وينشج أحر نشيج وأتى أبوها فرحلت معه وهي تبكي.‏‏

فسقط قيس مغشيا عليه لا يعقل ، ثم أفاق ونظر خف بعيرها فأكب عليه يقبله ورجع يقبل موضع مجلسها وأثر قدميها فلاموه على ذلك فأنشد:‏‏

وما أحببت أرضكم ولكن‏‏

أقبل إثر من وطىء الترابا‏‏

اذا نادى المنادي باسم لبنى‏‏

عييت فما أطيق له جوابا‏‏

فما جن عليه الليل وانفرد وأوى الى مضجعه لم يأخذه القرار وجعل يتملل ثم أتى إلى خبائها فجعل يتمرغ فيه ويبكي، وأنشد:‏‏

بكيت نعم بكيت وكل إلف‏‏

اذا بانت قرينته بكاها‏‏

وما فارقت لبنى عن تقال‏‏

ولكن شقوة بلغت مداها‏‏

ومن جيد شعره فيها:‏‏

أتبكي على لبنى وانت تركتها‏‏

وكنت كآت حتفه وهو طائع‏‏

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى‏‏

ويجمعني والهم بالليل جامع‏‏

نهاري نهار الناس حتى اذا دجا‏‏

لي الليل هزتني إليك المضاجع‏‏

لقد رسخت في القلب منك مودة‏‏

كما رسخت في الراحتين الاصابع‏‏

وليس لأمر حاول الله جمعه‏‏

ومُشتًّ ولا ما فرق الله جامع‏‏

اما من مات حبا: هو جميل بن معمر، كان يهوى بثينة فعرف بها أحبها وهام بها وكتب بها شعرا كثيرا.‏‏

وروي أن أمة لبثينة سعت الى ابيها واخيها وقالت لهما: ان جميلاً عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفين، فرأياه جالسا حجرة منها يحدثها ويشكو بثه، ثم قال: يابثينة أرأيت ودي اياك وشغفي بك الا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال بما يكون بين المتحابين ، فقالت له: ياجميل .. أهذا تبغي؟ والله لقد كنت عندي بعيدا منه، ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا، فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا الا لأعلم ما عندك فيه، ولوعلمت أنك تجيبيني اليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا، فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها وخطبها، فمنع منها ، بسبب تشهيرها بشعره ثم تزوجت غيره فكان يزورها في بيت زوجها خفية، فشكوه الى السلطان فهدر دمه لهم إن عاود فاحتبس ، فكان يصعد في الليل على قور‏‏

رمل وأي هضبة من الرمل يتنسم الريح من نحو حي بثينة ، فإذا وضح الصبح انصرف وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها:‏‏

ويحكن اني لأسمع انين جميل من بعض القيران ... ولما هم اهل بثينة بقتله بعد أن أباح دمه السلطان، ولكن ذهبوا إلى ابيه لعله يرتدع ، فقال له ابوه: يا بني حتى متى أنت عمة في ضلالك ... فأنشدك الله الا كففت وتأملت امرك ولو كان اليها سبيل لبذلت ما املكه فيها .... فأجابه جميل : والله لو قدرت أن امحو ذكرها من قلبي او ازيل شخصها عن عيني لفعلت وانا امتنع عن طروق هذا الحي والالمام بهم ولو مت كمداً، وقال وهو يبكي فبكى أبوه ومن حضر جزعاً لما رأوه منه، فذلك حين يقول:‏‏

ألا من لقلب لا يمل فيذهل‏‏

أفق فالتعزي عن بثينة أجمل‏‏

ففي اليأس ما يسلي وفي الناس خلة‏‏

وفي الارض عمن لا يؤاتيك معزل‏‏

ولست كمن إن سيم ضيماً أطاعه‏‏

ولا كامرئ ان عضه الدهر ينكل‏‏

والرابع بين هؤلاء كثير عزة ، قال أحدهم عنه: إني لأروي لكثير ثلاثين قصيدة لو رقي بها مجنون لأفاق ، وكثير هو ابن عبد الرحمن بن ابي جمعة وكنيته أبو صخر ، وهو من فحول شعراء الاسلام، نسب كثير الى عزة الضمرية وعرف بها ، فقيل : كثير عزة لكثرة تشبيبه بها ، وكان أول عشق كثير عزة وهي صغيرة ، فقالت: يقلن لك النسوة: بعنا كبشاً من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه الى أن تراجع، فأعطاها ، واعجبته ،فلما رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه فقال:‏‏

وأين الصبية التي اخذت من الكبش؟ قالت : وماتصنع بها ؟ هذه دراهمك قال: لا آخذ دراهمي الا ممن دفعت الكبش اليها ، وخرج وهو يقول:‏‏

قضى كل ذي دين فوفى غريمه‏‏

وعزة ممطول معنّىً غريمها‏‏

وقال فيها وهي من جيد شعره:‏‏

نظرت اليها نظرة وهي عاتق‏‏

على حين أن شبت وبان نهودها‏‏

هي الخلد مادامت لأهلك جارة‏‏

وهل دام في الدنيا لنفسي خلودها‏‏

ثم احبته عزة بعد ذلك أشد من حبه لها.‏‏

قالت عزة تحاول تجربته في حبه لها مخاطبة بثينة صاحبة جميل: تصدي لكثير واطمعيه في نفسك حتى اسمع ما يجيبك به ،فأقبلت إليه وعزة تمشي خلفها متخفية ، فعرضت عليه الوصل ، فقاربها ثم قال:‏‏

رمتني عن عمد بثينة بعدما‏‏

تولى شبابي وارجحن شبابها‏‏

فكشفت عزة عن وجهها فبادرها بالكلام‏‏

ولكنما ترمين نفساً مريضة‏‏

لعزة منها صفوها ولبابها‏‏

فضحكت ثم قالت: أولى لك بها قد نجوت ، وانصرفتا تتضاحكان‏‏

وكانت بثينة تردد أن شعر كثير اغلى عليها من مائة ألف درهم ولكنها بسبب تشبيهه بها لم ترض الزواج منه.‏‏

سأل عبد الملك بن مروان كثيراً عن أعجب خبر له مع عزة فقال:‏‏

حججت سنة من السنين وحج زوج عزة بها ، ولم يعلم احد منا بصاحبه فلما كنا ببعض الطريق امرها زوجها بابتياع سمن تصلح به طعاماً لأهل رفقته.‏‏

فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلي وهي لا تعلم أنها خيمتي وكنت أبري سهما لي فلما رأيتها جعلت أبري وانا انظر اليها ولا اعلم حتى بريت عظامي مرات ولا أشعر به والدم يجري، فلما تبينت ذلك دخلت إلي فأمسكت يدي وجعلت تمسح الدم عنها بثوبها وكان عندي نحي من سمن فحلفت لتأخذنه فأخذته وجاءت الى زوجها بالسمن فلما رأى الدم سألها عن خبره فكاتمته حتى حلف لتصدقنه ، فضربها وحلف لتشتمني في وجهي فوقفت علي وهو معها فقالت:‏‏

يابن الزانية ، وهي تبكي ثم انصرفا فذلك حين أقول:‏‏

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا‏‏

فلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت‏‏

وما كنت أدري قبل عزة ما البكا‏‏

ولا موجعات القلب حتى تولت‏‏

يكلفها الخنزير شتمي وما بها‏‏

هواني ولكن للمليك استذلت‏‏

مات كثير وعزة على قيد الحياة، فتقدمت المشيعين وهي تندبه غير هيابة لأحد.‏‏

وكذا حصل لجميل.‏‏

فكان العشق يؤدي للجنون، وكأنه أيضا يميت.‏‏

ولحديث الحب بقية.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية