المدينة العريقة بأبطالها الميامين الصامدين في وجه العدو، لايبرحون ترابه المضمخ بدماء الشهداء، وأدباء ينهلون من ذكرياته عبقا لايكاد يغادر أرواحهم التواقة دائما لكل نسمة تهب فوق ربوعه.
حضور الجولان السوري المحتل في» الإبداع الروائي» كان عنوان مهرجان الجولان للإبداع الروائي الذي أطلقته مديرية الثقافة بالقنيطرة على مسرح المركز الثقافي العربي لمدينة فيق، بمشاركة باحثين وأدباء تناولوا محاور هامة ومنها» الجولان في الرواية السورية وصور الصمود والمقاومة، وقراءات نقدية في تجارب إبداعية من الجولان، ويختتم في يومه الثالث بشهادات شخصية عن بيئة الجولان وأثرها في المنتج الإبداعي.
صلب حياتي وركيزتها
• د. حسن حميد: « أي زمن هو زمن الطفولة، وأي ذاكرة هي ذاكرة الطفولة، وأي حواس هي حواس الطفولة، وأي حنين وجيع» !
يقول د. حسن حميد في شهادته عن بيئة الجولان وأثرها في منتجه الإبداعي: «عشر سنوات أولى من طفولتي عشتها في الجولان، عشتها في الريف الذي رتب الطبيعة بيد حنون، هنا البيوت، هنا الحقول، وهنالك الحواكير والبساتين، وتلكم رجوم الحجارة العابسة، وذاك الدرب القادم من قرى السنابر، الدنكلي، ظبية، الفاخورة، إلى قريتنا نعران ..».
ويضيف: عشر سنوات عشتها كلها في الجولان هي التي أثرت في حياتي وهي التي كونت عواطفي تجاه كل ماصار هو صلب حياتي وركيزتها، فالبراري المحيطة بالقرية ودروبها التي نفترعها في كل مرة، والنباتات والأعشاب وغدران الماء .. وماتسربه نايات الرعيان من شجو وقصص وأحلام، وأعشاش الطيور التي تقاسمناها نحن الصبية هذا لي وذاك لك، وعدنا اليومي لبيوضها، تلك البراري ومشهدياتها هي التي جعلتني ومنذ طفولتي أرى الأرض أكثر من أرض، وأبعد من مكان، وأوفى من ألفة وسكن ..
تلك العاطفة التي عشتها في الجولان هي التي أثرت فيّ، وهي التي كونتني، وهي التي علقتني على محبة البراري التي ستصير في وعيي، أرضي، ووطني، وتلك المدرسة التي درست فيها صفوف تعليمي الأولى هي التي حددت انتمائي وهوية سلوكي واتجاهات عقلي، ورواية «جسر بنات يعقوب» من كتبها هو عشقي للأرض، وإيماني بمقولة جدي، وليست البراري الساحرة فيها سوى براري الجولان التي عرفتها وعشت فيها، وأيضا رواية» الكراكي « كتبها الحضور الجولاني الذي عشته وعرفته في القرى السورية التي تشاطىء ضفة نهر الأردن الشرقية والأرض السورية والأرض الفلسطينية لاقسمة بينهما ولاحدود.
وعي متقدم للمقاومة
• علي المزعل: «في الصراعات الوجودية يكتسب المكان أهمية خاصة، وتصبح الجغرافيا عاملا حاسما في كل مسارات الصراع، وفي حالات الفقد والاحتلال يتجذر المكان في الوجدان الشعبي ويصبح أكثر قداسة كلما طال الفقد والغياب ..».
ويضيف الاديب علي المزعل: على أن المكان الجولاني بكل مفرداته «الجبال والسهول والأودية والصخور والنباتات» لم يعد مكونا سرديا أوفضاء للأحداث فقط، بل أصبح حالة من حالات المقاومة لكل أشكال الاحتلال والتزوير والاقتلاع، وعاملا هاما من عوامل بناء الوجدان المقاوم للأجيال الصاعدة، وفي هذه الحالات قد يكون المكان هو الهدف النهائي من المنجز الإبداعي برمته، الأمر الذي يؤكده نهوض أدب الجولان على نحو لافت بعد حرب تشرين وقرار الضم الصهيوني الصادر عام 1981، وفي متابعة لحضور المكان في المنجز الروائي والقصصي لعدد من المبدعين السوريين والعرب تم ذكر أكثر من مئة مكان جولاني ورد ذكرها في تلك الأعمال، وشكلت حاملا أساسا لتلك الأعمال.
ويقول مزعل: حين أعود لمراجعة ماكتبت على تواضعه بدءا من قصتي الأولى «العبور» عام 1979 وانتهاء برواية «جياد الفجر» عام 2019 ومابينهما يخيل إلى أني لم أكتب إلا سطرا واحدا فقط» فلسطين، الجولان، المقاومة» ويبدو لي أن هاجس العبور إلى الوطن المحتل الذي يحتل ذاكرتي محكوم بالمكان الذي تشكلت بين جنباته ذاكرتي الأولى.
وباختصار يقول: أن كل ماكتبت حتى الآن هو ذاكرة المكان الذي يزداد تألقا وجمالا كلما امتدت سنوات الغربة والفقد، فقداسة المكان وحضوره الشديد في سرديات الجولان أملتها ظروف الصراع والتهديد المباشر بالاحتلال ومصادرة هوية المنطقة.
ولابد من الإشارة إلى البعد الفلسطيني في معظم الأعمال التي كتبت عن الجولان، حيث يبدو المكان الفلسطيني امتدادا للمكان الجولاني حين يتعلق الأمر باحتضان الفعل المقاوم، وشكلت الجولان عمقا استراتيجيا لكل ثورات فلسطين المتلاحقة.
يتغلغل عميقاً في روحي
• محمد الحفري: «أعرف الكثير عن قرية دبوسيا التي سجلت على قيودها، وهي التابعة لناحية فيق في جولاننا الحبيب، وأعرف عن غيرها الكثير، وأحفظ الكثير من الحكايات عن الجولان وأهله ..».
ويضيف الاديب محمد الحفري: لعائلتنا كما غيرها علاقة وثيقة مع الجولان فقد فقدت ثلاثة أبناء في سنة واحدة، حيث استشهد شقيقي علي مع الفصائل الفلسطينية فوق بطاح الجولان، وغرق أخي أحمد في غدران وادي الرقاد، وفقد شقيقي ادريس بصره نتيجة المتفجرات كما حصدت المتفجرات أطراف الكثيرين ..
أمي بكت كثيرا لما جرى حتى غادرت هذه الدنيا «متأخرا هذا البكاء ياأمي لولد اخترقه الرصاص فقضى منذ ثلاثين عاما، وآخر ابتلعه النهر فقذفه ميتا، بائسا غير مجد في أن يعيد البصر لأوسطهما، متواضع وقليل هذا الخبز الذي توزعينه كلما زارك ابي الذي رحل منذ أكثر من خمس سنين».
لقد جئت في تجربتي الإبداعية على ذكر الجولان في ثلاث روايات مطبوعة تسير على خط واحد «بين دمعتين، العلم، البوح الأخير» وجئت على ذكر أهله في رواية «صندوق الذكريات» ورواية «ذرعان مرة أخرى» وفي الاعمال التي قمت بإخراجها للمسرح، والآن وبعد ثمانية عشر كتابا في المسرح والقصة والرواية، واثنتي عشرة جائزة، مازلت أحلم أن أقف على الشفا الشمالي لقرية معرية كي أرنو إلى ذلك الوادي الرهيب ومن خلفه أرض الجولان الحبيب الذي يخفق لها القلب وتتغلغل عميقا في روحي.