صدرت في مدينة حلب وقد تضمنت خمسة عشر عملاً شعرياً، تسعة منها لشعراء عرب من رواد الحداثة وست قصائد أرمنية مترجمة إلى اللغة العربية وصدرت الأسطوانة من مؤسسة يغياديان.
هذا الخبر أثار ما كان قد ابتعد من هواجس وأمنيات سبقنا فيها الآخرون وصارت الفجوة بيننا وبينهم أشبه ما تكون بهوة تتسع كل يوم، ورغم معرفة المعنيين بذلك فإن بعضهم لا يحرك ساكناً وكأن الأمر لا يعنيه، وأنا هنا أعني الجهات الرسمية، وذلك لأن ما يسمى بالقطاع الخاص أو الأهلي ما زال أبعد ما يكون عن الاهتمامات الثقافية، فهو مشغول بما ينمي ثرواته لا غير وليس لديه هاجس آخر.
لكأنه من الأقدار المفروضة على سورية أن تكون مواقفها النضالية القومية عميقة الحضور والفاعلية، بينما يقف أصحاب الأموال فيها على حدود التسكع على أرصفة العلكة والشيبس والبطاطا، وما يتناسل من الهبش أو الدكاكين سريعة الربح والمرتكزة على أعمدة الوجبات السريعة التي تملأ المعدة، غير آبهة بمدى ما تمتلك من جدارة صحية حتى وإن كان ذلك على حساب إغلاق مكتبات ذات تاريخ عريق في العاصمة.
ذلك هو منطق الربح الذي يترك دون رقابة، وهذا يضع الجهات التي عنيناها أن يكون في أول أولوياتها الاهتمام بالصالح العام، تخطيطاً وتنفيذاً وحماية، وهذا يحتاج إلى استراتيجية متضافرة متبناة ومدعومة ولا تبنى على الارتجال الذي يحاول سد الثغرات أو ترقيع ما أمكن، بينما القار في أذهان الشرائح الشعبية أن غالبية الاهتمام مصروف لمصالح الأغنياء غنى فاحشاً أو الذين لا نجهل كيف صاروا أغنياء.
في بلدان العالم التي نصفها بأنها متقدمة علينا، وهي فعلاً كذلك في كثير من الأمور ولكن ليس في كلها في هذه البلدان ثمة من يندفع لتوظيف أمواله في مشاريع ثقافية أو ثمة مؤسسات تندفع للمساهمة في التبرع أو في دعم الفعاليات الإبداعية بينما يكاد يغيب مثل هذا التقليد عن واقعنا الثقافي الاجتماعي، وحين نقول هذا فإننا بشكل ما قد نستحضر تجربة مديرية الثقافة في الرقة، والتي استطاعت بدعم وبتمويل من المجتمع الأهلي أن تدعو أدباء مهمين من الأقطار العربية ومن بلدان أجنبية وتتكفل بنفقات حضورهم هذه ظاهرة لافتة وطيبة، وعسى أن تستثير همم الآخرين، بيد أن ما يمكن أن يتوقف عنده أن هذه الظاهرة الفريدة والتي يقف إلى جانبها المهرجان الثقافي الذي يقام في جبلة بدعم أهلي أيضاً على ما تثيره الظاهرتان من إحساس، ولو كان على قدنا فإنه يشير إلى أننا لسنا متأخرين إلى ذلك الحد المتصور، بيد أن من يدقق في الظاهرتين قد يصاب بشيء من الإحباط لأن الظاهرتين برزتا في مجتمع ريفي زراعي، بينما بقي القادرون على المساهمة والدفع من أغنياء المدن ينأون بنفوسهم عن مثل هذه الخزعبلات.
سأعود إلى ما دعاني إلى التوقف، يقول كاتب المقال أحمد بوبس: إن هذا يحدث لأول مرة، فيما أعرف أنه قبل ربع قرن قد تنقص وقد تزيد. أصدر الشاعر الفلسطيني المعروف يوسف الخطيب مجموعة شعرية بعنوان «مجنون فلسطين» شملت إضافة إلى طباعتها خمسة أشرطة كاسيت أرجو ألا تخونني الذاكرة، وهي مسجلة بصوته الإذاعي المميز وبإلقائه العالي المعبر، وهو من اختار لها الموسيقا الكلاسيكية المرافقة مع شيء من الشرح للموسيقا المنتقاة، غير أنها لم تجد من يحتفي بها أو يكتب عنها لاأدري لماذا؟! ربما لأن بعض الناس في بعض المواضع لا يحالفهم الحظ، فهذا الشاعر الذي لمع منذ منتصف الخمسينات كشاعر قومي وحدوي ومن ثم أعطى لوطنه فلسطين توثيقاً وتأريخاً ما يحتاج لأكثر من جهد فرد واحد، وهو الذي فتح الأعين على شعر شعراء الأرض المحتلة توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم، هذا الشاعر لم يأخذ حقه لا فلسطينياً ولا قومياً.
صدق من قال: «الدنيا حظوظ»
بما سردناه يتبين أن ذلك الإصدار الذي تحدث عنه بوبس ليس (الأول) غير أنه يفتح العين على ضرورة أن يعتمد القرص الليزري، إضافة إلى النسخة الورقية وهذا سبقنا إليه السابقون، عند هذه النقطة أتساءل لماذا لا يكون مع كتبنا المطبوعة نسخة قرص ليزري وقيمتها بالجملة حين تضاف إلى سعر الكتاب فإنها لا تشكل عبئاً مالياً؟، أتقدم بالاقتراح وأنا متخوف لأنني أخشى حين يتيسر ذلك أن يداهمنا طوفان من الاقتحامات لتجارب فجة، وأن تحاصرنا أصوات منكرة ترى في نفسها من الأهلية والجاذبية بل والشاعرية ما يسوغ لها أن تحمل كل أثقالها المادية والروحية، وتفاجئنا أنها تجأر في وجوهنا بما لا نريد، وحينئذ نكون بحسب ذلك المثل الريفي أمام أن «العجل قد فلت على أمه».
تحوطاً وأخذاً بما هو ممكن ويغني أقترح أن تترك الفرصة لمن يريد نشر مجموعة شعرية في وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب العرب ولمن يستطيع تحقيق الشروط الفنية المطلوبة، تترك له أن يتقدم إلى الجهة المعنية بنسخة ليزرية ترفق حين تكون صالحة مع الكتاب الذي يطبع وليس من الضرورة أن تكون بصوت الشاعر نفسه حين لا يجد نفسه أهلاً للإلقاء الشعري المميز، بل قد يسعى إلى من يكون إلقاؤه مناسباً ومعبراً وليس في هذا جور أو هضم حق، فقد رووا أن أحمد شوقي لم يكن يجيد إلقاء شعره، ولذا فقد كان يطلب من الممثل المشهور في زمنه عبد الوارث عسر أن يلقي قصائده نيابة عنه.
في آخر المطاف خطر لي ربما مالم يخطر على بال كاتب المقال وهو أنه كان يعني الأولية في (الليزرية)، لا أدري ربما..
al-naem@gawab.com