في عدد من دول العالم. وكما بدأت القضية بالظهور في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاياة تسعينيات القرن الماضي، فإنها تعود اليوم لتتفاعل من جديد في الأوساط الثقافية الأمريكية بعد أن نشرت صحيفة نيويورك تايمز تحقيقاً بعنوان “الأدب في المخازن”. ويظهر التحقيق الذي أورد العديد من الإحصاءات والبيانات والوثائق أن دور النشر الكبرى أصبحت تنعزل بالتدريج عن جمهور القراء وتحدد توجهاتها في النشر بناء على متطلبات جاهزة يفرضها الموزعون الكبار للكتاب. وتأخذ هذه العملية شكلاً معقداً، حيث يوزع كبار الموزعين بيانات أنظمة الحاسب في شركاتهم والتي تضم تسجيلاً دقيقاً لحركة البيع على الناشرين الذين يقومون بدورهم بتحديد توجهاتهم في نشر كتب معينة بناء على تلك البيانات الحاسوبية.
وأشار التقرير إلى ظاهرة جديدة تطورت وأصبحت تقليداً في صناعة النشر المعاصرة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أصبحت دور النشر تتلقى طلبات مسبقة من قبل شركات التوزيع والبيع الكبرى تتضمن قوائم فيها شروط محددة للكتب المطلوبة بما فيها العناوين وتصميم الغلاف والأعداد المتوقعة من النسخ التي يمكن بيعها. والمفارقة في هذه الطريقة الجديدة أن قوائم الطلبات تلك تحتوي على الأدب كنوع محدد وخصوصاً الأدب الروائي. فهل أصبحت الرواية تكتب وفق شروط مسبقة يحددها السوق؟! هذا هو السؤال الذي جعل من الظاهرة موضوعاً مقلقاً. فإذا كانت قوانين العرض والطلب عاملاً لا يمكن تجاهله في توجهات الناشرين عموماً لأن صناعة الكتاب محكومة بالضرورة بعملية إنتاجية وتسويقية، فإن الجديد هو في من أصبح يحدد ويوفر المعلومات للناشرين. في الحقبات الماضية كانت دور النشر العريقة تقيم علاقات وطيدة مع موزعي الكتب الصغار ومع محلات بيع الكتب المستقلة التي تمتلك تقليدياً علاقات مباشرة مع القارئ بحيث كانت تستطيع إلى حد بعيد رصد سمات وتوجهات الذائقة الأدبية للجمهور. وكانت تلك المحلات الصغيرة تتمتع بصفة نخبوية تخصصية تمنحها استقلالية نسبية عن حركة السوق، حيث كانت العلاقة بين القارئ وبين بائع الكتاب علاقة مباشرة وفردية كرست عبر عقود طويلة مفهوم القارئ الزبون الذي يتواصل مع بائع خبير ومثقف قادر على توفير خدمات شخصية تتعلق بتسويق الكتاب وتوفير اختيارات معينة. أما اليوم فإن شركات ومخازن بيع الكتب الكبرى قد سيطرت على السوق على حساب النمط القديم. لكن آليات العمل في تلك المخازن تلغي كل صلة مباشرة وفردية مع القارئ وتحوله إلى مجرد رقم أو بيانات رقمية تخزنها الحواسيب. ولذلك فإن تحول دور النشر إلى شركات البيع والتوزيع الكبرى كمصدر جديد للمعلومات المطلوبة لتحديد سياسات النشر أمر يحمل سلبيات كبيرة منها أن البيانات التي توفرها الشركات الكبرى تفتقر إلى التنوع والتعدد والتحول الموجود في توجهات الذائقة الأدبية عند جمهور القراء.
إن التعامل مع بيانات البيع والتوزيع على أنها مجرد معطيات كمية ثابتة يخلق وهماً بوجود ذائقة أدبية موحدة وعامة تميز حقبة ما أو ثقافة ما. وحقيقة الأمر أن هذا الوهم مناف لطبيعة العلاقة بين المتلقي والظاهرة الإبداعية، حيث لا يمكن في أي عصر أو ثقافة تعميم نمط محدد من الأسلوبيات أو الجماليات أو الموضوعات التي يمكن لها أن تشكل مؤشراً لسياسات النشر أو لشروط والكتابة الإبداعية. فمن يستطيع القول مثلاً أن دوستويفسكي أو شكسبير أو غابريل غارسيا ماركيز أو هنري ميلر كانوا في حقبات معينة تمثيلاً لذائقة أدبية ما؟! ومن يستطيع القول أن العديد مما ينشر اليوم من روايات هو تمثيل دقيق للذائقة الأدبية لعصرنا؟! بل من يستطيع القول بأن هناك توافقاً جمعياً على الذائقة أو الحساسية التي تحدد علاقة القراء بالأدب؟! إن مجرد غياب الخصوصية الفردية في تلك العلاقة هو نفي وإنكار لمفهوم الذائقة. أليست الذائقة الأدبية تجربة فردية قبل أن تكون ناتجاً لعمليات الجمع في جداول وبيانات البيع في مخازن الشركات الكبرى؟
وفي سياق الإنتاج الأدبي المعاصر يرى العديد من المتخصصين والنقاد أن تأثير قوانين السوق الجديدة قد بدأت تؤثر بشكل فعلي على أسلوبيات الكتابة عند الكثير من الأدباء. ويتضح ذلك من مؤشرات عديدة أولها قوائم الكتب الأكثر مبيعاً التي تسوقها وسائل إعلامية باتفاقيات غير معلنة مع مؤسسات صناعة الكتاب. وبدراسة معمقة لتلك القوائم الكثيرة يمكن رصد نزعة جديدة نحو توحيد وتعميم أنماط معينة من الكتابة. وفي مؤشر آخر يشير بعض المتابعين إلى أن الجوائز الأدبية الكبرى قد بدأت تلعب دوراً في تعميم تلك الأنماط. وتتجلى خطورة الأمر في أنه يخلق وهماً بوجود اتجاه جمعي عام، وهذا ما يجعل فردية القارئ الضحية الأولى لقوانين التسويق الجديدة في صناعة الكتاب. إن حرية القارئ في الاختيار تتضاءل بالتدريج في سياق تزايد الكثافة الإعلامية والإعلانية التي يتعرض لها في جميع ميادين حياته اليومية. إن قوانين التسويق المعاصرة من التعقيد والكفاءة بحيث يجب العمل على إبداع آليات مقاومة لها تستطيع حماية ثقافة الكتاب من سلطة المال المطلقة.
عن مجلة ريزن الثقافية الأمريكية.