وهنا تحضُرُني تلك المقولةُ الرّائعةُ التي أطلقَها تشيخوف وهوَ في غمرة نشاطه وعطائه الأدبيّ. قال:” لقد أردتُ أن أقول للنّاس بصراحة وصدقٍ. انظروا إلى أنفسكم، انظروا كيف تحيون حياةً سيّئةً عبثيّة مملّة... إنّ ذلك أهمُّ شئٍ يجب أن يفهمه النّاس، وهم عندما يفهمون ذلك، سيشيدون حتماً حياةً أُخرى أفضل، وستكون حياةً مختلفةً تماماً، لا تشبهُ أبداً هذه الحياةَ المدمِّرةَ التي تحياها المجتمعاتُ البشريّة”.
وُلِد أنطون تشيخوف عام 1860 في روسيا وعاشَ فيها كلَّ حياته. إلاّ أنّ الفسحةَ الزّمنيّةَ التي منحتْها له الحياة، كانت قصيرةً جدّاً، فلقد فارقَ الحياةَ عن عمرٍ يناهزُ أربعةً وأربعين عاماً فقط.
يُقالُ:” إنّ موتَ الرّجل العظيم يشبهه”. فقبلَ أن يغمضَ أنطون تشيخوف عينيه ويرحلَ إلى الأبد عن هذا العالم، ودَّعَ الحياةَ بكلمتين لفظّهما باللّغةِ الألمانيّة التي لا يجيدُها. قالَ:” إيش ستيرب” أي إنّني أموتُ.. كان وقتئذٍ على فراش الموت في أحد المشافي في مدينة” بادنويللر”. وقد جاء إليها في محاولتهِ الأولى والوحيدةِ للعلاج من مرض السُلِّ الخطير الذي كان يفتكُ بصدره مبكِّراً منذُ السّنوات الأولى لمراهقتهِ. كان على فراشه يعاني من سكرة الموت، وقد أصبح عاجزاً عن مواصلة عمليّة التّنفّس الحرّ، فاستدعتِ الممرِّضةُ الطّبيبَ على جناح السّرعةِ ليحاولَ إنقاذهُ ممّا هو فيه وإعادةِ نظام التّنفُّسِ إلى حالتهِ الطّبيعيّة. دخلَ الطّبيبُ مسرعاً إلى الغرفة حيثُ يرقدُ تشيخوف. إلاّ أنّه لم يستطع أن يفعلَ شيئاً، لأنّ تشيخوف رفضَ وضعَ جهاز الأوكسيجين على أنفه، وبدلاً من ذلك طلبَ أن يشربَ كأساً من الشّمبانيا. وكانت تلك آخر كأسٍ له في رحلة حياته القصيرة. ودَّعَ دُنياهُ بهاتين الكلمتين من اللّغة الألمانيّة، ثمَّ اضطجعَ بهدوءٍ وثقةٍ كبيرتين على جنبه الأيسر، جاهداً نفسَه على الإبتسام، ومضى في رحلته الأخيرة، وقد أغمضَ عينيه لينتقلَ إلى حياة أفضلَ طالما تمنّاها وأرادها لكلِّ البشريّة.
لقد رحل تشيخوف، تاركاً خلفَه أربعةً وأربعين عاماً، وستَّ مسرحيّات، وتسعة مشاهدَ مسرحيّة من فصل واحد، وروايتين، ومائتين وأربعين قصّةً قصيرة. مات الرّوائيّ والقاصّ والمسرحيُّ والطّبيب عام 1904. ورثاهُ النُقّادُ والكتّابُ في كلِّ أنحاء روسيا والعالم أجمع، كواحد من عظماء روسيا والعالم آنذاك. كما رثاه بعمقٍ وحزن شديديْن الفقراءُ والمحتاجون الذين كان يعالجُهم ويداويهم مجّاناً، وصنّفوه في عداد قِدّيسي البلاد. إذ أنّ أنطون تشيخوف الطّبيب عاش طيلةَ حياته متعاطفاً مع بؤس الآخرين حتّى عندما تحسّنت أوضاعُه الماديّة والمعيشيّة، إذ ظلَّ حليف الطّبقة الفقيرة والمسحوقة التي عاش بين ظهرانيها.
في أعماله الأدبيّة، تمسَّك تشيخوف بالبساطة والصّدق، معترفاً بأنّه أراد دائماً أن يصوِّرَ دقائق الحياة اليوميّة ومفارقاتها، علَّ القارئَ يدركُ اقترابه من الهاوية بسبب حياته السّاذجة والمغتصبَة. وقد أشار كثيرٌ من النّقاد إلى أنّ تشيخوف في كلِّ ما كتب وخاصّة في قصصه القصيرة، يقتربُ جدّا من حياة أبطاله، يعاني ما يعانون ويشعر كما يشعرون. وهو يتميّز بأسلوبه السّاخر الذي لم يكن إلاّ صرخة مدوّية مطالبةً بالمساواة وتخليص عامّة الشّعب الكادح والمثقل بهموم الاستغلال والابتزاز. يختار شخوصَه من عالم الفقراء والمتعبين وبسطاء النّاس. وتزداد كتاباتُه قسوةً وحدّةً كلّما أوغلَ في مفارق الحياة ومفاصلها الرّئيسيّة والهامّة، ليستطيع من خلال كلِّ ذلك أن يرسم عبرَ قصصهِ مظاهرَ الطُّغيان والفساد الاجتماعيّ.
كان تشيخوف متواضعاً جدّاً، حين تصوَّرَ أنّ أعمالَه ستُقْرأُ لسبع سنوات مقبلةٍ فحسْب بعد وفاته. لكنّ حركةَ التّاريخ أثبتت أنّ أنطون تشيخوف تحوَّلَ إلى ظاهرة ثقافيّة وأدبيّة على نطاق العالم. فغدا أحدَ أكبرروّاد الأدب القصصيِّ عالميّاً، يجاريه في ذلك موباسّان وإدغارآلن بو وسواهم.
كتبَ تشيخوف أعمالَه القصصيّة والرّوائيّة والمسرحيّة بلغته الأم، اللّغة الرّوسيّة، وما تعدّاها مطلقاً، فأبدعَ بها أجملَ المؤلَّفاتِ الأدبيّة الكلاسيكيّة. وعلى الرّغم من ذلك، فقد اختارَ أن يودِّعَ الحياةَ بكلمتين من اللّغة الألمانيّة. وكأنّ في ذلك إشارةً منه إلى عبثيّة هذا الكون، وعلى شموليّة صراخِ البشريّة واحتجاجها على مظاهر الألم الإنسانيّ.
يُعدُّ أنطون بافلوفيتش تشيخوف بحقٍّ أحد روّاد القصّة والرّواية في العالم. تُرْجمتْ أعمالُه إلى لُغاتٍ عديدة. وقد تُرجمَ بعضُها إلى اللّغة العربيّة. وأذكرُ على سبيل المثال لا الحصر، قصّتهُ الرّائعة” السّهوب”، وهي قصّةٌ ذاتيّةٌ ذات طابع سيكيولوجيِّ تحليلي. وكذلك قصّتيه” السّاذجة” و” بعد المسرح”.