يتوافق فيلم كوينتين تارانتينو الأخير Inglorious Basterds مع النموذج الهوليوودي النمطي الذي يتناول الحرب العالمية الثانية. في هذا الفيلم تغادر وحدة خاصة من اليهود الأميركيين، اسمها Inglorious Basterds”” إلى فرنسا المحتلة، تضع نصب عينيها هدفاً واحداً وهو أن يعلموا النازية معنى الانتقام اليهودي. ويبدؤون في نصب الكمائن للدوريات النازية، ومن ثم يقومون بقتل الأسرى، مبرزين وحشيتهم في أقصى حدودها، سواء أكان في سحل النازيين القتلى، أم في الإجهاز على أولئك الذين نجوا من خلال تحطيم رؤوسهم بضربات عصى البيسبول.
ودوماً تترك هذه المجموعة التي سندعوها الباستريد Basterds شهوداً ألمانيين على قيد الحياة، لكي يحكوا عن هذه الوحشية التي لا ترحم، ويثيروا بذلك الخوف والرعب لدى الأهالي من القاتل اليهودي. كانوا، وبواسطة حرابهم، ينقشون الصليب المعقوف على جبين ضحاياهم الأحياء، والهدف من ذلك هو وسم هذا النازي بحيث يبقى معروفاً حتى لما بعد الحرب. وهنا يبدو أن عصبة من “البشر المتجردين من أي عزة” يقومون بدور الإله - الأب.
للحظات قليلة، اقتنعت القيادة النازية العليا أن “الدب اليهودي”، و”صياد النازي بمضرب البيسبول”، هو في واقع الأمر غوليم المنتقم، الذي تلقى أوامره من حاخام أفقده الغضب رشده. وتقول الأسطورة اليهودية إن غوليم هو مخلوق مصنوع من الصلصال، وقد بُعثت الحياة في هذا المخلوق بواسطة تعويذة سحرية. وفي الفيلم يمثل “الدب اليهودي” السرجانت دوني دونوويتز “إلي روث” وهو القائد الثاني لجماعة الباستريد. والإشارة إلى غوليم له مدلوله الواسع هنا، إن النازية، ظاهرياً، تعتقد بوجود كائن بشري يمارس أقصى وحشيته ضد أمثاله من بني البشر. غوليم له كلمته العبرية، التي تعني “الحقيقة” المنقوشة على الجبين، وبالنسبة لجماعة الباستريد فإن مفهومهم عن الحقيقة ينحصر في الحقيقة التي يتمكنون من فرضها على الآخرين، بواسطة نقش الشعارات التي يريدونها على الجبين.
سبت الغوي
الملازم آلدو راين “براد بيت” ضابط من ولاية تينيسي، ليس له علاقة لا من بعيد ولا من قريب مع جماعة الباستريد، ولكنه يمتلك ميولاً جنونية للانتقام، الأمر الذي يطرح سؤالاً عن الدوافع التي حدت بالمخرج تارانتينو إلى اختيار أحد رعاة البقر “كوبوي” الغوييم لقيادة جماعة الباستريد الصهيونية؟ من المحتمل جداً أن تارانتينو أراد هنا أن يشير إلى فكرة أن الملازم راين ليس سوى أداة “أو وكيل مرتزقة” لطلاب الانتقام الصهيوني. كما ويمكن تشبيه العلاقات التي تربطه مع مرؤوسيه بالعلاقات التي كانت تربط بوش مع دعاة الحرب من المحافظين الجدد، ومن الصعب أن نجزم إن كان القائد راين مرشحاً للتهويد، أم أنه وبصفته إنساناً فظاً ومتوحشاً ومتعطشاً للدماء يروي ظمأه للدم بالتلاقي مع مسألة الانتقام الصهيوني؟ ولكن ثمة أمراً جلياً تخلفه لدينا الصورة السينمائية لدى المخرج تارانتينو، وهي أنه لا يمكن أن نأمل خيراً من أي مغامرة بشرية تنتج عن انضمام أمريكا إلى اليهود.
الفيلم والحلم
بدلاً من أن نكون نحن من يشاهد محتوى الحلم، يمكننا أن نتخيل أن الحلم هو الذي يرانا، يرى في داخلنا “محتواه في الواقع”. وكما يحدث في تأويل الأحلام، لا يتم مراعاة واقعنا النفسي فحسب، وإنما يُمحص به جيداً أيضاً. تقوم فكرة تأويل الأحلام على فرضية أنه وضمن سياق الحلم هناك موجة من الأفكار اللاإرادية تأتي لترسم خطوطها على النواة الصلبة من كياننا. تتجلى وظيفة الحلم في جذب الانتباه إلى أشياء تختبئ داخلنا ونحاول إنكارها. وهذا يذكرنا بالشعار الذي رفعه سلافويتش زيزيك، خلال أعوام الستينات، والذي يقول “الحقيقة تخص أولئك الأشخاص غير القادرين على مواجهة الحلم”.
ويلعب الفيلم الدور نفسه الذي يلعبه الحلم. وطالما نشعر أننا نحن جمهور المشاهدين، فإننا نشعر بضرورة مراعاتنا. ينطوي فيلم تارانتينو الأخير على مثال كلاسيكي، هدفه زيادة وعينا وإدراكنا لغاية الوصول إلى مملكة الأفكار التي نحاول التهرب منها بأي ثمن، ويثير قضايا نعتبرها من المحرمات. كما ويعطينا فرصة لنرى أنفسنا من زاوية اللاوعي. ومن خلال الخيال يرسم صورة لواقعنا. وكما في الحلم يحرك فيلم Inglorious Basterds ويصيغ الأحداث البعيدة جداً عن أي حقيقة تاريخية. والفيلم علاوة على ذلك، لا يسعى لإثبات أي حقيقة تاريخية مجمع عليها، كما لا يتبع أي سرد معروف. ومع ذلك يفيض الفيلم بالمعاني، وإن كان ثمة نجاح حققه، فهو راجع إلى قدرته في التواصل مع بعض الواقع الافتراضي الرمزي “إنه يجردنا من رمزيتنا ومن نظامنا الرمزي، ونظراً لأنه عمل فني، فإنه يقربنا من وجهة النظر”.
يؤثر الفيلم ومن خلال اعتماده على العنف على نواتنا الأخلاقية ويوقظ فينا تطلعنا إلى التعاطف. ولأول مرة نتجاوز التناقض الذي فرضناه على أنفسنا بشكل ذاتي عبر إغماض أعيننا عن جذور الصهيونية وبربريتها وإشعالها نار الحرب في كل أصقاع العالم. وباستخدام الخيال، استطعنا أن نرى الشر في العيون، وذلك حصل في اللحظة الحاسمة مع نهاية الفيلم، في تلك اللحظة كانت الكاميرا هي عيون الملازم راين “الذي أعطى نظرة تنم عن وجهة نظره”. لاحظنا أن الملازم كان على وشك أن يقطع بحربته جبهة الكولونيل لاندا. ومن خلال لغة سينمائية أدركنا وبلحظة رعب شديدة أن الملازم قام بنقش الرمز على جبهتنا. يقول لاكان، إن اللاوعي هو لغة الآخر، وتلك هي الحقيقة المرة التي نحاول إخفاءها عن الآخر، ونحن على يقين من استحالة إخفائها.
من منظور صهيوني، يمكن أن يُفهم الفيلم على أنه كابوس يصبح ضمنه الحلم المزعج واقعاً. ولكن يستحيل أن ننكر أن تارانتينو كان هناك صارخاً: “الملك عار” لا هو ضحية ولا هو بريء. وإن كان معظم الصهاينة لا يرونه، بل على العكس إنهم يشيدون بالفيلم، وهذا يعتبر مؤشراً إضافياً مزعجاً عن حقيقة أن الهوية الجمعية للصهيونية قد وصلت إلى نقطة انفصالها عن أي مفهوم مُجمع عليه بما يتعلق بالواقع الإنساني. وهذا يفسر لنا الدعم المؤسساتي الذي يقدمه المجتمع الصهيوني العالمي لإسرائيل، وكذلك ربما يفسر لنا، لماذا عجزت الصهيونية، بصفتها مجموعة عن استيعاب معنى المحرقة. وبدلاً من السعي إلى البحث عن النعمة في داخلها، واصلت الصهيونية مطاردتها للنازية والنقش على الآخرين تسميات ورموز مختلفة.
منذ زمن طويل استطاع اللوبي الصهيوني، وفي كل أنحاء العالم كتم أي انتقاد لإسرائيل، وكذلك نجح في جعل الحرب العالمية الثانية منطقة للبحث محصورة لليهود دون سواهم، وأيضاً حول معرفتنا للماضي إلى مبادلة رمزية، ولكنه فشل في رد الحلم إلى صمت. وهنا يأتي دور تارانتينو، فمن خلال الخيال الذي استخدمه، نجح في أن يقول لنا ما هو واقعنا في الأعماق.
وطالما أن Inglorious Basterds وشوشانا وأيضاً الإسرائيليين “المتجمهرين فوق مرتفعات غزة، وهم يعبرون عن إعجابهم بأداء جيشهم وهو ينشر الموت هناك” لا تروي المتعة ظمأهم للانتقام، فإنه من المحتمل ومن خلال قضاء ساعتين ونصف الساعة من العلاج لدى تارانتينو، يصبح في استطاعتنا الاستمتاع بالعوارض التي نعانيها، والقول بصوت عال: “كفى، هذا يكفي! لا نريد المزيد من انتقام العهد القديم! أوقفوا البربرية! إن ما نبتغيه، عوضاً عن ذلك كله هو النعمة والرحمة!”.