إنّ ما نملكه مجرّد كلام إنشائي لا يقدم ولا يؤخر، وهو ما تعلمناه في المدرسة من خلال المدرسين الأشاوس. نجمع الكلام ليصير كتاباً وندفعه إلى المطبعة، لا بل إن بعضنا يمكنه أن يضيف خمسين صفحة أو أكثر إلى حجم الكتاب ليقبض ثمنه أموالاً لا أكثر، دون أن يكون لذلك علاقة في جسم الكتاب. إنّ عمر الرواية في تلك الدول /500/ عام، وعمرها في بلادنا لا يتجاوز الخمسين سنة، وليس لدينا إرث ثقافي في الرواية نستند إليه، أو نتكئ عليه، سوى بعضنا، لذلك تجدنا نتمايل يميناً وشمالاً خوف الوقوع.
ليس عندنا رواية جيدة ورواية سيئة، بل كل ما عندنا سيّئ، شئنا أم أبينا، والذي قرأنا له وأعجبنا به، عندما كان رصيدنا من القراءة قليلاً، سنعيد قراءتنا له الآن، وسنرى إن كان سيعجبنا أم لا. الرواية بحاجة إلى خبرة حياتية ومطالعة دائمة للآداب الأخرى، ومنهج تعليمي جديد، لا تلقى علينا مواضيع التعبير التي حفظها المدرس من قبل مدرسيه المنقولة عن مدرسيهم عن المنفلوطي رحمه الله. بالإضافة إلى قدرة عجيبة على التهرب من العين المفتوحة علينا، منذ اللحظة التي نمسك بها القلم، وعلى سبيل المثال جرت معي الحادثة التالية: لقد تقدّمت إلى الهيئة العامة للكتاب بمخطوط ما يسمّى رواية، هكذا نسميه ولو أنه منضد وعلى الحاسبوب، أحضرت نسختين مرفقتين بـ C.D.، وكتبت موجزاً عني وعن أعمالي، كما اتبعت ذلك بملخص عن العمل وسجلته في الديوان وأخذت رقماً وتاريخاً له على قفا ورقة المفكرة... وانتظرت زمناً طويلاً، وحين سألت عنه، قيل لي: «اعتذروا عنه»، ومرقت على الهيئة في طريقي إلى دمشق، وحين فتحته في باص النقل الخارجي هالني من كثرة ما رأيت إشارات الضرب بالقلم الأحمر، قلت لنفسي: يا رجل عيب عليك، أما تزال نفسك خضراء، وقد بلغت من العمر عتياً، فلنمسح هذه الأشياء التي لا يريدونها، وعلى ذلك قررت، كما قررّت أن أبدل العنوان عساهم يتزحزحون، ووصلت إلى المنزل، وجلست أمام الحاسوب، ورحت أحذف كل ما كان فيه إشارة ضرب «×». وما أن انتهيت وغيّرت العنوان حتى أصبحت «مشفاية» أي خالية من أي لحم، وعندما أصبح كل شيء جاهزاً، أسرعت وذهبت إلى دمشق إلى الهيئة العامة للكتاب، وطلبت الأذن للدخول على السيد رئيس الهيئة فأذن لي، فاستقبلني باشاً، وأفهمته القضية، وبأنني حذفت كل ما من شأنه أن يسيء إليهم، أو يعتقد أنه يسيء إليهم لا من قريب ولا من بعيد، وأنني غيّرت العنوان، فابتسم علامة الرضاء، وخرجت فرحاً مسروراً.
انقضت الأيام والأسابيع وشهر وشهران وثلاثة، ترى ماذا حصل بالمخطوط؟ وقد «انصرعت» إذ علمت بأنهم قد اعتذروا عن طباعته، قلت: لا حول ولا قوّة إلا بالله، وتمنّيت الرّحمة للأستاذ أنطون مقدسي، فقد كان الرجل يوافق على طباعة المخطوط، مهما كان يحمل من أفكار، المهم أن فيه ما يشبه الرواية.
هذا عن العين المفتوحة في الهيئة العامة للكتاب التي تطبع في حال الموافقة /1000/ نسخة توزع على /23/ مليوناً، عدا عن تلك التي توزّع على الأقطار الشقيقة، والمراكز الثقافية التي لنا في العالم، أمّا عن اتحاد الكتاب العرب، فحدّث ولا حرج، ويكفي أنّ مستودعاته مملوءة حتى التخمة بما هبّ ولم يدبّ من مطبوعات السادة الأعضاء أصحاب الوزن الثقيل، يعدّون العدة لترحيلها، ولكن لا مكان يحويها.
بقي القطاع الخاص، فهو شريكك في الربح والخسارة، وعندنا مثل يقول “ ع الوعد يا كمون “ والقطاع الخاص دائماً يبكي لأنه الخاسر الوحيد.
في هذه الأيام “ الموضة “ لكتّاب الرواية طالما الأجيال بدون عمل، فلماذا لا يكتبون الرواية؟ فالمطلقات كثر، لماذا لا تكتب تجربتها في غرفة النوم مع هذا البائس الذي أكسبها هذه التجربة، والتي لا تريد أن تكتب عن تجربتها تجدها تسوح في البراري والقفار لتعدد أنواع الرمل والحصى والشوك والصبار، أو في الغابات لتعدد أنواع الأشجار والحشائش الموجودة وينابيع المياه وعدد حبات المطر وما جرَّ من ذيول واضطرابات في التربة. والمشكلة أنهم يأخذون جوائز على مثل هذا الكلام، وواحدهم، أو واحدتهم لم تقرأ رواية حتى نهايتها، لا عربية ولا مترجمة، يحفظون الأسماء وهي تغني عن فعل القراءة، وكفى الله المؤمنين شرَّ القتال.
هذا الشعب لا يقرأ، قل ماذا يقرأ، هل يقرأ إنتاجنا، ونحن الجالسون على أرصفة المقاهي نتسكع ونكشّ الذباب عن وجوهنا، أحياناً نستطيع ذلك وأحياناً لا نستطيع.
ليس عندنا رواية، ولا أدب، لا مسرح، ولا فن، ولا سينما، ولا أي شيء من هذا القبيل، عندنا تخلف يشرشر من آذاننا إلى كعوب أقدامنا، ولكننا مع كل ذلك نحاول، ومحاولتنا هذه شرف لنا وقوّة، وعلى هذا الطريق نسير.
انظر ماذا حلّ بأمسياتنا الأدبية، ماذا حلّ بعدد الكتب التي نطبعها، وبعدد القراء، وبعدد الذين يشترون الكتب، ولن أتابع في هذا... أظنّه يكفي: المهم أن كتاب الرواية كثيرون. وأعود لأسألك: منذ متى لم تقرأ عملاً جيداً؟ بالله عليك، قل الصدق ولو على نفسك.