تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


مساءلة الأشكال السائدة

ملحق ثقافي
2/ 3 / 2010
منذر بدر حلوم: وعلى معرفة منّي بأن الفوضى مذمومة, رأيت, حين دعيت, مرّة, إلى أحد المنتديات لمناقشة موضوعٍ عن «الشباب»..رأيت فضلا للشباب في إحداث الفوضى, قبل أي شيء آخر, في تكسير القوالب وليس في الخضوع لها, في التهيئة لواقع جديد وليس في الخضوع للواقع القائم,

في هزّ المنظومات المستقرّة على ركود وليس في تقديسها والانضواء تحت لوائها, وليست الثقافة آخر ساحات فعل الشباب, بل هي أوّل هذه الساحات. فكل شيء يبدأ بالثقافة وكل شيء ينتهي إليها.‏

مساءلة الأشكال السائدة, اللعب بها, بعثرتها, قيمة بحد ذاتها, من حيث أنّها تنتهي إلى أشكال وبنيات يصعب التكهّن بها مسبقا, وهنا مكمن قوتها إبداعيا. فهنا يكون الجديد الذي يصعب على الشيوخ قبول أن يكون خارج برامجهم وتوقّعاتهم, وبالتالي خارج سيطرتهم وسلطتهم. والشباب والشيخوخة هنا, ليسا مفهومين بيولوجيين. فمن شباب الكتابة السورية من تجاوز الخمسين. أليس للكتابة, على مثال البشر, شبابها وشيخوختها, كما للمجتمع شبابه وشيخوخته؟ لقد حدث شيء يصعب تجاهله, حين تفتّق المجتمع السوري عن جذوة شباب تلقّفها شباب الكتابة وبقيت فيه, فيما هي همدت في غير مكان. يقولون: لا دخان دون نار, والصحيح أن لا نار دون أكسيجين.‏

وهكذا, فثمّة ظاهرة في الكتابة السورية لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقات الفاعلية الاجتماعية. فالكتابة الروائية الموسومة بالجديدة, تأتي استمرارا لفاعلية كانت سمتها الثقافية هي الأبرز واستمرت في الثقافة رغم انقطاعها في الحقول الأخرى, وربما, أمكن القول, لأنها انقطعت هناك استمرت بل اشتدّت هنا. هذا لا يعني أنّ الكتابة الروائية السورية «الجديدة» كتابة تعويضية بالضرورة, أو كتابة تعويضية في اختيارها لموضوعاتها, إنّما يعني أنّ هذا الشكل من التعبير «الثقافي» عن همّ غير ثقافي لا يزال ممكنا. وأمّا أن تكون الكتابة السورية الجديدة تعويضية فهنا مكمن ضعفها ومصدر قوّتها في الوقت نفسه. مكمن ضعفها, لأن ذلك يجعلها تنوء بأوزار ليس للفن وحده أن يرفعها, ومصدر قوّتها لأنّه لا يترك لها بدّا من مساءلة الشكل, أي من البحث عن شكل جديد, أو, في أقلّه, تحطيم الأشكال السائدة, والأمر هنا ليس مهمّة يسيرة, وقد لا تجد من يعترف بشرف المحاولة. فالاستجابة الأوّلية, الانفعالية, المباشرة, لواقع مكسور تنتج شكلا مكسورا, يحتاج إلى زمن من التأمل البارد وإعادة الصياغة حتى يغدو صالحا للالتحام بالمضامين الجديدة. ولكن, ماذا لو أنّ انكسارات الواقع لم تفض إلى مضامين جديدة, ألا يبقى الشكل المكسور محنّطاً تعبيرا عن مومياء الواقع؟‏

معلوم أنّ الموضوع لا يصنع فنّا! فالشيء نفسه يمكن أن يكون, في الوقت ذاته, موضوعا لفن رفيع ولعمل مبتذل لا علاقة له بالفن. ومن نافل القول, أن الرواية ليست موضوعها, ذلك أن الموضوع نفسه يمكن أن يكون أساسا لرواية رديئة ولرواية جيّدة كما يمكن أن يكون أساسا لمقالة أو لوحة أو أي شيء آخر لا علاقة له بالفن. ومع ذلك, ففي الوقت الذي يمكن فيه لكتب الاحصاء أن تقدّم أرقاما عن عدد الجوعى والمشردين والعاطلين عن العمل, وفي الوقت الذي يمكن أن تطرح فيه الدراسات الاجتماعية معطيات رقمية عن واقع الفرد والأسرة والمجتمع وعن الفساد والخراب والتحلل الاجتماعي والقيمي, فإن آلام البشر وأحلامهم, وإخفاقاتهم وإحباطاتهم, ومحاولاتهم توليد أوهام جديدة لتغدو حياتهم, ممكنة, هنا والآن, ليس لشيءٍ أن يعبّر عنها إلا الفن. وتأتي الرواية أوّلا وقبل أي شكل فنّي آخر لتعبّر عن حقيقة ما لا تعرضه شاشات التلفاز. فالفن هو ميزان الحقيقة المتعلّقة بأحلام البشر ومصائرهم, وكل حقيقة تراوغ هذا الميزان حقيقة زائفة. والرواية هنا, رائزها الفن بما هي لسان حال معاناة البشر.‏

ولمّا كان الفن ليس هو الموضوع, ولمّا كان الفن شكلا قبل أي شيء آخر, فهل من الدراية أن لا يتوقع المرء انكسار الشكل مع انكسارات الواقع؟ لو كان الأمر كذلك لما ظهرت التكعيبية والسريالية وغيرهما من المذاهب الفنّية التي تعدّت الفن التشكيلي إلى سواه, ولتابع بابلو بيكاسو وسلفادور دالي تقاليد أسلافهما برسم المناظر الطبيعية وبورتيهات أصحاب الجاه والسلطان!‏

غير أنّ بيكاسو ودالي قمّتان لهرمين فيهما آلاف ريَش الرسم وأطنان من الألوان وشرائط مديدة من الخام تكفي لتسوير بلدان. وما جعلهما على قمّة الهرم ليس كونهما رائدين فحسب, بل لأن الهرم نفسه بات ممكنا بفضل من النقد. كان النقد قد استجاب لانكسارات الواقع فأعاد النظر بأساليبه وأدواته ومناهجه, نحو أدوات ومناهج جديدة تستجيب لأشكال التعبيرالفنية الجديدة. فالمسألة, إذن, ليست في اعتراف النقد بالظاهرة أو عدمه, إنّما في تشكيلها, في بناء هرم يكون تشاكلها فيه ممكنا, هرم يقوم على أدوات وأساليب ولبنات من طبيعتها, وليس من طبيعة غريبة عنها.‏

ولكن, لا بد من إبداء الأسف هنا, فثمة شرخ تقف الرواية السورية الجديدة على حافّتيه أو في الفراغ فوقه. فمنّا, نحن كتّابها, من يفتقر إلى الجرأة الكافية ليكون مضحكا أو رجيما حتى النهاية؛ ومنّا من ارتد مع ارتداد الواقع إلى أشكال راسخة يعترف بها نقد لا يبدو أنّه تعرّض لأيّة هزّة ولو ارتدادية من هزّات الواقع؛ ومنّا من بقي معلّقا يبحث عن شكل له فوق الصدع السحيق. وهكذا تقف الكتابة السورية أمام ثقب أسود شكّله غياب نقد يتلمس الجديد فيها بدلا من أن ينكره وينكرها.‏

ومع ذلك فثمّة جديد, يمكن تلمّسه في الواقع. هذا الجديد, يتمثّل في إقبال كثير من الشباب على قراءة روايات سورية جديدة بعد أن كانت قراءاتهم تقتصر على الروايات المترجمة. وليس من المفاجئ أن تتفارق استجابات النقاد مع استجابات القرّاء, القرّاء المتابعين الذين على دراية وليس الطارئين العابرين. فقد تكون العلّة في أنّ القرّاء يخرجون من الواقع الفعلي إلى الرواية ويأتون بها إليه, فيما النقّاد ينفضون عن أكفّهم غبار الواقع قبل تناول الكتاب. أثر الروايات لا يزال بالماء والصابون, يا أصدقائي النقاد. وقد يكون في ذلك جديد الرواية السورية, فهي تدخل من الجراح إلى الدم وتتماهى معه!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية