تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«جاوما مَرثال كَنوس» يلبي نداء الضفة الأخرى من المتوسط أســرار ســوريّة‏‏‏‏‏في عيــون إســبانيّة‏‏‏‏‏

ملحق ثقافي‏‏‏‏‏
2/ 3 / 2010‏‏‏‏‏
د.محمود شاهين: «سأتوقف عن التصوير الآن. لقد نفذت هذه الأشياء إلى أعماق روحي بكل وداعة، إنني أشعر بالامتلاء، وهذا ما يزيدني ثقة وطمأنينة،‏‏‏‏‏‏

وليس عليَّ أن أجهد نفسي الآن.‏‏‏‏‏‏

إن الألوان تتهافت عليَّ ولم يعد حاجة للبحث عنها،‏‏‏‏

وستبقى في أعماقي إلى الآبد، هذا هو معنى اللحظات المباركة:‏‏‏‏

أنا واللون لا نشكل إلا واحداً... إنني مصوّر»!!.‏‏‏‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏

بهذه الكلمات، عَبّر الفنان التشكيلي الألماني الشهير «بول كلي» أحد الأركان الرئيسة لحركة التشكيل العالمي الحديث، من دهشته عندما لبى نداء الشرق، وزار تونس لأول مرة العام 1914. وأضاف «كلي» قائلاً: «عليَّ الآن أن أكون متأنياً إذا أردت أن أفعل ما أريد، إن هذا الليل سيبقى في أعماقي إلى الأبد»!!.‏‏‏‏‏‏‏‏

بعد تونس التي زارها أكثر من مرة، تطلع «كلي» إلى مصر، فانقسم قلبه إلى قمرين: قمر الجنوب، وقمر الشمال. ومن جديد تتملكه الدهشة فيبوح: «بعيدة تلك البلاد... بعيدة جداً، مع ذلك فقد كانت جد واضحة. إنها قصة من ألف ليلة وليلة، إنها ليلة تقبع في أعماق الأبد. كثيراً ما كان ظهور القمر الشمالي الأشقر يذكرني بها، بصوت خافت وكأنه صورة باهتة تنعكس على مرآة. لقد أوضحت هذه الليلة عروسي، أناي الأخرى، ذلك أنني أنا قمر الجنوب، في اللحظة التي يبزغ فيها»!!.‏‏‏‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏

على خطى كلي‏‏‏‏‏‏‏‏

«جاوما مَرثال كَنوس» فنان تشكيلي أسباني معاصر، درس الفن في مدرسة الفنون والحِرف «يوتشا» في «برشلونة». عُين العام 1967 مديراً للقسم الفني في وكالة إعلانات وفنون غرافيكيّة في نفس المدينة، ثم انتقل للعمل في دور للطباعة والنشر في أكثر من دولة. تغطي نشاطاته اليوم، مختلف حقول الإبداع الفني، فهو ينجز اللوحة المتعددة التقانات اللونيّة، ويصمم قارورات العطور، واللوحات الإعلانيّة، والرسومات التوضيحيّة للكتب، ويرسم الوجوه التاريخيّة، بأسلوب كاريكاتيري، وله اهتمامات بالسمعيات _ البصريات التي يقوم بتسجيلها لعدة متاحف في مقاطعة «كتالونيا».‏‏‏‏‏‏‏‏

هذا الفنان الأسباني المنحاز للاتجاهات الفنيّة الواقعيّة المتلونة، يسير «كما يبدو» على خطى «بول كلي» فقد لبى نداء الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، فزار تونس، والمغرب، وسوريّة، وفي هذه الأخيرة، حاول البحث عن «قمر الشمال و»قمر الجنوب» وعن روحه الموزعة بينهما والمطهمة بأسرار الشرق الغامضة، الساحرة، والمدهشة، ومن ثم نقل كشوفاته إلى خطوط وألوان وعناصر استلها من أرض الواقع مباشرة، بعد أن مررها عبر موشور ذاته العاشقة لجذور عربيّة ضاربة في عمق التربة الأسبانيّة، أخذت طريقها إلى مجموعة من اللوحات الزيتيّة والمائيّة، انضوت في معرض فردي شهدته صالة الشعب بدمشق التابعة لاتحاد الفنانين التشكيليين السوريين، حمل عنوان «رؤى من سورية الحالية وأسرار أخرى». غالبية أعمال المعرض، منفذة هذا العام، وترصد ملامح سورية من دمشق، وحلب، وحماة، ومنطقة الفرات، بعضها اقتصر على العمارة القديمة في المدينة والريف، وبعضها الآخر «وهي الأكثر» رصدت مظاهر إنسانيّة مختلفة، بأسلوب واقعي مختزل وحديث، ينم عن إمكانات هذا الفنان وخبرته العميقة، في الرسم والتلوين وبناء التكوين القوي والمتماسك، المستندة في الأساس، إلى موهبة حقيقيّة، أبقت تجربته الفنيّة، بعيدة عن الوقوع في شرك التسجيليّة الباردة والمكرورة!!.‏‏‏‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏

المستشرقون الجدد‏‏‏‏‏‏‏‏

يرى «خوان سيرات» السفير الأسباني بدمشق، أن الرحلة التي يقترحها الفنان «جاوما مَرثال كَنوس» في معرضه «رؤى من سوريّة الحالية وأسرار أخرى» تمثل واحدة من البرامج الأكثر جذباً التي غذّت الخيال الجماعي للكثير من الأسبانيين. فالرسام «البالينثي» مثل العديد من الرسامين والكتّاب الذين سبقوه أمثال: «فورتوني، غويتيسولو، ريغاس... وتطول القائمة» ينضم إلى تقليد المستشرقين الأسبان، ومع هذا هناك عامل يميّز هؤلاء المستشرقين الأسبان، وهو أنهم في أغلبيتهم لم يشكلوا نتاجاً ثانوياً للتوسع الاستعماري الأوروبي فيما يدعى الشرق الأوسط، لكنهم شكلوا ظاهرة رفض للاستعمار بحد ذاته، وللسياسة الاستعماريّة. وهذا العامل المختلف لا يمكنه مفاجأة أحداً، من شعب أدخل على ثقافته، على مر قرون، العديد من المعالم الثقافيّة العربيّة _ الإسلاميّة، وخصوصاً تلك الثقافة القادمة من الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ويوجد دوماً تقارب ثقافي نسبي بين الضفة الشرقيّة للبحر الأبيض المتوسط والشرق الأسباني.‏‏‏‏‏‏‏‏

ويؤكد السفير الأسباني، أن هذا الإرث المشترك، يجعل من أسبانيا جسراً طبيعياً بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وكلتا الضفتين تشكّل مصدراً لثقافتنا. وتظهر هذه الازدواجيّة في أعمال الرسام البالينثي، طريقة المعالجة التي خص بها أعماله المُنجزة في سورية، المتمتعة بشيء مألوف، يربطه بمعالجة الضوء الاعتيادي في المنظر الطبيعي الأسباني.‏‏‏‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏

استشراق متميز‏‏‏‏‏‏‏‏

ويرى «بابلو مارتين أسويرو» مدير المركز الثقافي الأسباني «معهد ثربانتس» في دمشق، أن مشاركة الفنان «جاوما مَرثال» في حركة الاستشراق، تتم بطريقة مميّزة، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار، أنه قد مضى ما يقارب قرنين من الزمن، منذ جواري الفنان «أنغر» ولوحات الفنان «ديلاكروا» وهي ثمرة رحلته إلى المغرب، حيث يبلغ عمرها الآن 150 عاماً. الذين كانوا في تلك الحقبة الزمنيّة، كائنات غرائبيّة مشبعة بالألوان، فقدوا هذه السمة منذ زمن طويل، نتيجة إشباع هذا النوع من الصور، ليس فقط في الرسومات، إنما ناتجة أيضاً عن أدلاء الرحلات، والمجلات، ومنشورات وكالات السياحة، والإعلانات، والصور الرقميّة التي تسمح لأقربائنا وأصدقائنا تقاسم رحلاتهم وتجاربهم.‏‏‏‏‏‏‏‏

ويشير مدير المركز إلى أن الفنان «جاوما مَرثال» لا يسعى في أعماله، لأن يجعلنا نرى كائنات غرائبيّة تدعى في أحايين كثيرة «الأصلية» إنما يريدنا أن نرى الحياة اليوميّة للسوريين مثل «سكاكيني حي باب توما في دمشق» أو مشاهد من شعائر دينيّة مسيحيّة وإسلاميّة، أو أشخاص يعيشون حياةً خاصة، مثل المغنية الغجريّة التشيكيّة، أو كارمن «لاكاريتا» _العربة_. والشيء نفسه يتكرر في مناظر منطقة الفرات، أو البيوت الدمشقيّة، أو المساجد، تطغى عليها أضواء البحر الأبيض المتوسط والتي ليس فيها أي شيء غريب بالنسبة لنا نحن الأسبان، وربما هذا ما يجعل من أعمال هذا الفنان المتنوعة، تبتعد عن البحث عما هو مختلف، لتتعمق جغرافيّة نتقاسمها جميعاً، وتمتد من «بالنثيا» إلى «سورية» مروراً بتشيكيا، دون أن ننسى «ابن حزم» أو «خوان مانويل سيرات» مع أن «بابلو مارتين سويرو» يفضل أغنية «وُلدت في المتوسط» على أغنية «بينيلوبي» ويُرجع السبب في ذلك، لكونه جاء من خليج «بيسكاي».‏‏‏‏‏‏‏‏

‏‏‏‏‏‏‏‏

ضفاف الواقعيّة الواسعة‏‏‏‏‏‏‏‏

يجوب الفنان «جاوما مَرثال كَنوس» في أعماله، الضفاف الواسعة للواقعيّة، كأسلوب وصياغة ومعالجة، ويرصد كمضمون، تدوين الحياة في سورية، وهي متنوعة ومختلفة، من منطقة إلى أخرى. فتراه شغوفاً بالعمارة القديمة في أحياء دمشق ومساجدها، أو في البادية والقرى الطينيّة بالقرب من حلب، أو على ضفاف نهر الفرات، فيقوم برصدها وتسجيلها، بتقنية الألوان المائيّة المناسبة لتجميد اللحظات الآنيّة، والانفعالات المباشرة، والأحاسيس المتجاوبة مع المشهد، والناتجة عن مواجهة مباشرة له، ولمؤثراته المختلفة، الناتجة عن حركة الناس، والريح وتداخلها مع الأصوات التي تعزفها مظاهر الطبيعة المختلفة، وبحساسيّة رفيعة، تتوافق وخاصية المائي الشفيف غير القابل للخطأ أو التصحيح، وبنفس التقنيّة اللونيّة الشديدة الحساسيّة، يرصد ملامح الوجوه السوريّة الأنثويّة الصبوحة، ووجوه المصلين والمصليات داخل المساجد والزوايا الدينيّة، والناس الشعبيين، في عمق البادية السورية، وعلى ضفاف الفرات، وفوق أزقة دمشق القديمة وشوارعها. وحتى التجمعات النسائيّة الإيرانيّة المتفردة بأزيائها الرافلة بتزاويق نباتية ساحرة، الزائرة للأماكن الدينيّة السوريّة «كالجامع الأموي» و»الست رقيّة» و»السيدة زينب» لم تنج من ريشته التي لاحقتها وسجلتها ببراعة. كما دخلت ريشة الفنان «كَنوس» بيوت السوريين، فرصدت ناسها وعاداتهم وتقاليدهم وموجداتها، تارة بالألوان المائية، وتارة أخرى بالألوان الزيتيّة، ولا ينسى أن يطرز جوانب بعض لوحاته «سوق مدت باشا، الحب الحقيقي _لوحة تكريميّة للشاعر الأندلسي ابن حزم نفذها الفنان عام 2004 _ حارة من المهاجرين» بنصوص وعبارات باللغة العربيّة.‏‏‏‏‏‏‏‏

هنا أو هناك، يثبت الفنان «جاوما مَرثال كَنوس» قدراته المتفوقة، في التعاطي مع أدوات تعبيره، الناهضة في الأساس، على موهبة أصيلة، تمرست بالدراسة ونضجت بالانكباب المتواصل على الإنتاج الفني المتعدد الأشكال والقياسات، وما أسعفه بالخروج بلوحة استشراقيّة سوريّة متميزة، حبه الحقيقي للبلد الذي زاره أكثر من مرة، وانتخابه المتقن، لموضوعات أعماله.‏‏‏‏‏‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية