لأنهم يقرنونه إما ببعد «زمني» راهن/ معاصر، يُتخذ أمارة فارقة، تميّز بين جيلين أو مرحلتين، أو بسمة «الجدة» المتعلقة بمنتَج أنجِزَ، وتهيأ للتداول القرائي، ولكنه عند الأدباء والنقاد والمفكرين الذين يدعون إليه جلي الأبعاد والمقاصد والدلالة.
وقد تمّ التمييز بين الحداثة والمعاصرة « فالحداثة فعل يقوم على الاختيار الواعي المتجاوز على عكس المعاصرة التي هي مجرد وجود في الزمان، لاينطوي على هذا النوع من الاختيار بالضرورة، وكون المبدع معاصراً، يعني أنه يعيش في زماننا، أي يعاصرنا، وقد تكون المعاصرة حجاباً بيننا وبينه، وقد تكون معاصرته محصورة بوجوده الجسدي، أو بترداد شعارات العصر»»1».
وبين الحداثة والجدة، فالحديث غير الجديد، وإن كان الجديد يُعَدُّ في أصله أحد علامات الحداثة، فلا يمكن وصفه بالحديث إلا إذا عرض قضايا الحداثة على مستوى التصور الفكري والاشتغال الأسلوبي « فالحداثة ليست قريناً للجدة، فهي ليست تاريخية، وإذا كان الجديد يشير إلى الزمن، فإن الحداثة تشير إلى حساسية ما، وإلى أسلوب ما»»2» فالحداثة تنفلت من قبضة الذهنية الساكنة عند حد المقبولية، لأنها تتجاوز ما هو جاهز ومألوف ومقبول على المستوى الإبداعي، لتجاور ما هو متمرد ومقلق، وباعث للأسئلة الصعبة.
لذلك انتفى وجود تعريف نموذجي للحداثة، يقوم مقام المرجع، لأنها «سيرورة من التحولات والتجديدات ذات طابع لا تاريخي نسبي، ومن أهم مايطبع هذه السيرورة عندما يتعلق الأمر بالرواية هو النزوع المتواصل نحو التدمير الشكلي الأقصى، حيث يستبدل النص الروائي الحديث العالم الذي تحكمه القوانين والمعيارية والشمولية بعالم يفتقر إلى مركز للتوجيه، ويخضع إلى مراجعة دائمة والمعيارية والشمولية بعالم يفتقر إلى مركز للتوجيه، ويخضع إلى مراجعة دائمة لليقينيات»»3» التي ضربت طوقها المحكم على رقبة الإبداع الروائي لعقود طويلة.
والمتمعّن في مدونة الرواية العربية يرى أنَّ الرواية العربية تعرَّضت خلال العقدين الأخيرين، لتحول صارخ طرأ على نظام تشكّل منظومتها السردية، بتتالي كم روائي نوعي، تعمد مؤلفوه خرق أعراف السرد التقليدي، لصالح نظام اشتغال سردي حديث، تقصد اكتساب منطق التميّز بفعل الاشتغال في رحاب أفق آخر للتخييل، نهض على التجريب، ومنح القيمة الكبرى للفاعل الإبداعي المتحرك الذي استدرج الاحتمالات والفرضيات الممكنة لتشييد عالم تخييلي، متجرد من تجليات النمطية، والمعيارية.
هذا النزوع الحداثي اقتضى من الروائي أن يتحرر من كل ما يكبِّل الذهنية السردية في عملية التفكير والتخييل، وأن يمتلك رؤية ناضجة للعالم، تمكّنه من تلمس روح العصر، والإجابة عن أسئلة الوجود وفق منظور حداثي، هذا الإجراء الاشتغالي يصب في ماهية الرواية التي هي من منظورها الكرونولوجي تحولات معرفية، وانتقال مستمر، وتجدد، وبحث دؤوب عن معرفة أبستيمية تتكون موسّطة عبر آليات اشتغال التخييل، ودينامية أدوات السرد »»4».
فالحداثة في الرواية تبدأ عندما يعلن الروائي القطيعة مع ملامح الكتابة المسكوكة المنطوية في خانة الميثاق السردي التقليدي، ولا بد لها من أن « ترتبط بالديموقراطية، وحقوق الإنسان، وبالتعدد والتنوع، والاختلاف، والبحث والنقد والشك، والتفكير الحر في المستقبل»»5».
ولذلك لاتبدو في أي شكل ميلاً عشوائياً، يفتقد مقومات الكينونة، والاقتضاء، بل إنها تقتضي من الروائي أن يحقق « حريته الواعية في إنتاج نصوص تعكس فرادته، وقدرته على التقاط سمات العصر، قصد تجلية العالم، ورؤياته داخل التشكل البنائي للنص، بحيث تصبح الكتابة في حد ذاتها هي الغاية، والوسيلة، ويصبح المتلقي معادلة أساسية فيها، بكونه وجهاً لها عبر القراءة، بتأمليتها، وتأويلتها، وإنتاجيتها»»6» فالذات المبدعة هي الخالقة لعالمها التخييلي باللغة، والصيغ، ومظاهر التخييل، وآليات الاشتغال السردي.
ومن هنا يمكن القول: إن الرواية الحديثة – «هي رواية الحرية، إذ تؤسس قوانينها الذاتية، وتنظِّر لسلطة الخيال، وتتبنى قانون التجاوز المستمر، ولذلك ترفض أية سلطة خارج النص، وتخوّن أية تجربة خارج التجربة الذاتية»»7» فالنص الروائي يجب أن « يعبر عن الحداثة بالمكونات الداخل نصية، وليس بواسطة المكونات الخارج نصية»»8»، ولذلك لا يمكن للحداثة الروائية « أن تتحول إلى شيء جاهز، أو إلى وصفات يمكن الاسترشاد بها»»9» لأن لكل نص روائي مظاهر حداثته المؤسس عليها، ولكل روائي مفهومه الخاص للحداثة، وآليات تجسيدها إبداعياً.
وهي« تعكس ذاتها، وتدمج في دائرة تشكيلها التفكير حول الرواية، إنها تذهب إلى أقصى إمكانياتها بإدماجها لمسعاها الخاص، واستبدالها للمفاهيم بسيرورات إجرائية.. تؤكد نفسها، باعتبارها بحثاً… وتزعم أنها لاتعتمد على أية فلسفة، وليست متضمنة لأيّ منها»»10» لئلا تحصر نفسها في نسق من المفاهيم، والضوابط التي تمسي عائقاً، يحد من الحرية المطلقة المتاحة للروائي الحداثي.
وبفعل تتبع الإبداع الروائي الحداثي المنجز في الوطن العربي، يمكن حصر تجليات الاشتغال السردي الحديث الذي ينهض على آليات صياغية حديثة، أهمها:
• شعرية العنوان.
• التحرر من أحادية الصوت المهيمن على منظومة السرد.
• تفتيت المكان الروائي.
• تحطيم مفهوم الشخصية الروائية باللاشخصية.
• كسر خطية الزمن الحكائي لصالح نسق اللعب الزماني.
• النزوع إلى الغرائبية.
• الارتهان للتعدد الخطابي والأسلوبي.
• استدراج تقنيات المسرح،والسينما،والصحافة،والأنواع الفنية.
• مباغتة المتلقي، وجعله طرفاً في العالم التخييلي.
فاشتغال الروائي على هذه الآليات وفق الاتساق مع المنطق الحكائي هو المعيار الأساس لوصف النص الروائي بأنه حداثي، مما يعني أن الحداثة الروائية تملك موضوعي للمعرفة الأدبية، وإدراك ناضج لمحمولاتها الجمالية، ولم تكن أبداً مجرد نعرة، لم تفضِ إلى إنجاز خلاّق، وهذا يعني من الضروري فهم الحداثة الروائية في « بعديها الفكري، والأدواتي، أيّ بكونها مشروعاً مغايراً إبداعياً وفكرياً للسائد والمألوف والنمطي، وطريقاً نحو فهم أعمق، وأشمل لأسرار الإبداع الروائي»»11» وأن ينطلق الحديث عن الحداثة في الرواية العربية من الإنجاز المبدع، وليس من التصور أو المفترض.
حذفت الهوامش لضرورات النشر