غير أن الكلمة غنية بالإيحاءات والقراءات إلى حد إنها تحتمل أن توضع في أي مكان ، أو تكون صفة للمواليد دون أن تحمل أحكام القيمة التي يريد البعض إسباغها على الكتابة الروائية، كما يريد الآخرون نزعها عنها، غير أن المتأمل فيما يكتب لابد أن يلاحظ جملة من التغيرات أو الاختلافات التي تحققها الكتابات الجديدة، تتباين تباينا ما عن تلك التي سبقتها في العقود الماضية منذ نشأة الرواية العربية،ولذلك فإن من الأفضل أن أقول بأن الجديد يخلو هنا، جزئيا، من أحكام القيمة، ومن التعميم، في الوقت نفسه.
أعرف أن كلامي قد يبدو نوعا من الوسطية، في حين حزم الجميع أمورهم وقرروا أن يقفوا إما مع أو ضد الرواية الجديدة، لا بأس على من يريد أن يوجه مثل هذا الاتهام بذلك، فهو صحيح، إذ أن الكتابات الجديدة بدورها لم تستطع أن تثبت أنها مؤهلة لاحتلال الموقع المشتهى الذي ترجو أن تضع نفسها فيه، مثلما أنها أثبت اختلافها، ونهجها المفارق لمنطق الكتابة الروائية الأعم.
وفي كل الأحوال لا يمكنني أن أنكر أن الرواية السورية في العقدين الأخيرين، أو أقل قليلا قد قدمت العديد من المحاولات المختلفة، في الموضوعات، وفي رؤية العالم، وفي الموقف من المضامين الفكرية التي انشغلت بها الرواية من قبل. فاللافت أنها قد حسمت أمرها، واختارت الفصحى في السرد والحوار مثلا.أعتقد أن هذا الحسم، لم يكن لغويا، وإن وجد تعبيره، أو أحد أشكال تعبيره في الاختيار اللغوي، وإنما كان فكريا واجتماعيا وسياسيا، إنه يعكس تبدل النوايا الأدبية، من جهة، واختيار القارئ من جهة ثانية،وتغير نظرة الروائي إلى ذاته. لم يعد الروائي نبيا أو رائيا أو ملقنا، ولم يعد الروائي يفترض أنه نبي أو مصلح، إنه أحد أولئك المحبطين الفاشلين الموجودين خارج حلبة الصراع على المكاسب، والمنافع الشخصية، صار الروائي نفسه بطلا لروايته،و بات يعلم، دون أوهام، أين هو القارئ. لم يعد القارئ المفترض هو "الجماهير"، بل قارئ بعينه، الأرجح أنه من الفئات الوسطى المتعلمة في المجتمع، على الرغم من دمار الطبقة الوسطى، قارئ نوعي، يعرف أن الرواية فن، وأنها ليست نشيدا للثورة أو لغيرها، وإنما هي محاولة دؤوبة للبحث عن البدائل الخيالية الممكنة للوجود، أو هي أسئلة البشر في اللحظات الأشد قتامة وهولا عن المعاني والقيم الخاسرة والمشتهاة والمفتقدة.
تغيرت مفاهيم المرسل والمتلقي إذن، وبدأت الرواية تبحث عن قارئ جديد، ربما تكون قد اكتشفته، وهي تضعه في الجانب المسؤول، في الجهة الفاعلة المشاركة من العملية الأدبية، ولذلك فقد كفت الرواية عن أن تكون رسالة، واستبدلت الوصف، الذي كان يشير إلى الشاهد، أو يعبر عن الكاتب النبي،بالمشهد الذي يعبر عن الكاتب المشارك الحاضر داخل الفعل نفسه.
المشكلة التي تواجهنا هي التالية: هل يكفي استبدال الموضوعات، أو الشخصيات المختارة للبطولة الأدبية، أو حتى استبدال المضمون وحده للقول بالجديد المختلف في الرواية؟ هل يكفي أن تتبدل أساليب الكتابة الأدبية كي نعلن عن مجيء الجديد ونحتفي بقدومه؟. وهنا يمكن أن نسأل كذلك: أين هو الجديد في الرواية؟ هل يكمن التجديد في ابتكار الأشكال» وهو ما أدعو إليه وأناصره دائما» أم في تبدل الموضوعات؟ بل إن تغير الموضوع أمر شبه محتوم تفترضه الحياة، فيما تحتاج هي نفسها إلى قوة الخالق المبدع كي يفرض عليها جديد الأشكال.
ثمة أسئلة أخرى تحتاج إلى التأني قبل أن نجيب عنها: هل بوسع الرواية أن تصنع الجديد في زمن يتصف بالركود؟ هل يمكن للتجاوز والتخطي أن يتحققا في حقل من الحقول الإبداعية، في حين تنحو بقية الحقول إلى الجمود والترمد؟ لا يمكن أن ننكر أن الرواية في سورية تحقق خطوة بعد أخرى نجاحات واضحة في ميدان الكتابة الروائية، ولكن دعونا نتريث قليلا قبل أن نشهر الأسلحة للدفاع عن الخنادق، وإذا ما فحصنا الأسماء والتواريخ من يستطيع أن ينكر أن رواية مثل ألف ليلة وليلتان، أو رسمت خطا في الرمال، لهاني الراهب، لا تنتمي إلى الرواية الجديدة أيضا؟.
أكثر ما يثير المخاوف في الحماسة للرواية الجديدة هو أن تتحول المنجزات البسيطة والمتواضعة لها إلى موضة، أي إلى قواعد ذات وصفات جاهزة، وهو ما بدأنا نلمسه في إعلاء شأن اليومي والعادي، والتنديد بالقضايا الكبرى، بذريعة أنها من واردات النظريات البائدة» ماذا نقول عن الحب هنا، يومي وعادي، أم قضية كبرى؟»
أليست الكتابة عن اليومي، والعادي، والقريب، قد تؤدي إلى الابتذال؟ أو إلى إفقار الرواية من المحتمل الذي تضعه بين يديها الموضوعات الخيالية؟ ألا يؤدي هذا إلى اغتيال الخيال كما يحدث في الكثير من الروايات التي تدعي الجديد، فتذهب إلى لغة فقيرة مستوية بلا ظلال؟ هل تسعى الكتابة الروائية عن اليومي والعادي إلى أن تكون وثيقة للحفظ، أو مهمة خاصة لتسجيل العابر؟ ألا يهددها مثل هذا الخيار بأن تمضي في الطريق التي تجنبتها، أي أن تحول العادي إلى قضية؟ ومع ذلك فإن الهجوم على القضايا يحتاج إلى الحوار والنقاش.حوار يستند إلى تاريخ الرواية في العالم، وفي العالم العربي معا، هل صحيح أن الرواية لا تشتغل على الدائم، والكلي، والعام الإنساني؟ أو أن اشتغال الرواية على القضايا الكبرى يضعها في خانة التقليد والجمود؟ يجب أن المرء شديد السذاجة كي يصدق أن الكتابة عن المقهى، أو عن الحقل، أو عن المصنع، أو عن الشقق الفاخرة، أو عن السجن، أو عن النضال، أو عن الخيبة واللامبالاة، أو غير ذلك هي التي تحدد جديدها، لأن الجيد هو الجديد بلا منازع، حتى لو كان يكتب عن القمر.