وعلى أنها موجة أدبية طالعة من فراغ، ومن دون آباء، وإذا كان لها من آباء فالعباقرة من أدباء الغرب. هذا الكلام ليس جديداً، قيل بحرفيته في السبعينيات من القرن الماضي.
الملاحظ من خلال الدعايات التي رافقتها وشارك فيها صحافيون... عملية استسهال إسباغ الأحكام النقدية، واعتبار أن هذه الموجة تمثل الرواية الجديدة، وهي رواية تنسخ القديمة، وكأن الجديدة قدمت الخوارق، واجترحت جديداً مميزاً فعلاً، مع أنها لم تتعرض للامتحان، وإنما للمجاملات والعلاقات الخاصة، بالاضافة إلى أنه لا تطابق بينها وبين ما راج حولها من تقريظ، بعبارة بسيطة؛ لم تنضج بعد، حتى تشكل ظاهرة تقلب أوضاع الرواية، فما بالنا بتيار روائي!! المثير اعتبارهم أنفسهم، حملة لواء الحداثة والتجديد وحدهم، وأن ما كُتب من قبل عبارة عن روايات ايديولوجية، قومجية، هادفة، رجعية، طائفية، مقيدة. ترافقت مع انتقادات جريئة للجيل السابق من قبيل: التاريخ أثقل نصوصهم الروائية/ لم تحقق حضوراً جمالياً/ الروائي ليس أكثر من مؤرخ....الخ.
بالمقابل، ما يميز أعمالهم عمن سبقهم حسب قولهم، هو أنهم شهود على اللحظة الراهنة بكل دمارها وخيباتها وانكساراتها/ رواية القاع والعشوائيات والضواحي المهملة/ رواية الهامش واللابطل/ بالاضافة إلى ما تمتلكه من حساسية جديدة....الخ.
هذه الطروحات سبق ان تناولتها الكتب النقدية والصحافة الثقافية قبل عدة عقود، وفيما لو عدنا إلى الخلف لوجدناها منتحلة بالكامل، التقادم لم يشملها، مادامت تنتزع لهم مكانة أعادوا نفض الغبار عنها، وجُددت من غير رتوش. فقد جرى رصد الاحباط والخيبة بعد حرب 67 في الرواية العربية إلى حد جلد الذات المهين والمرضي. كما وكُتب عن الهامش والهامشيون الكثير، دُعيت في ذلك الوقت، بالكتابة عن القاع «كان أهم روادها يوسف ادريس في قصصه القصيرة خاصة، وخيري شلبي حالياً، كما كانت هموم روايات الواقعية الاشتراكية الانتصار للفقراء المهمشين»، أما الحساسية الجديدة فخرَّجت رهطاً من الكُتاب الشباب المصريين «المنظر لها ادوار خراط»، والفن للفن «الشكل أهم من المضمون» تلك المشكلة القديمة قدم الفن نفسه عادت للظهور بحلة مخادعة، بالاضافة إلى الخيال الطليق «مع أن الخيال وجد أفضل تجلياته عندما جرى توظيفه في روايات أمريكا اللاتينية تحت عنوان الواقعية السحرية»... وغيره.
في حينها أيضاً، كانت الرواية الجديدة الفرنسية قد وصلت حديثاً إلى الوسط الثقافي وأصبحت من مهماته لاسيما في لبنان الشقيق، وهي رواية رفض سدنتها الشخصية والقصة، واهتموا بعالم من الاشياء، وكرسوا جهدهم لوصف الحياة دون أبطال، اليوم ما الذي بقي منها؟! لقد انتصر بلزاك الذي أرادوا القضاء عليه. وإذا كان النقاد وقفوا منها موقفاً محيراً، فقد قاطعها القراء الذين لم يفهموها، ما انعكس أيضاً على متابعي الأدب، بل ومال كتابها الكبار روب غرييه وميشيل بوتور نحو التقرب إلى الرواية التي لا تستبعد البشر منها، عموماًَ هم وغيرهم أصبحوا من تاريخ الرواية.
تجاوزت الرواية هذه الدعاوى، ولم تعد تشغلها هذه الطروحات، فالرواية ليست مقتصرة على القاع ولا على الطبقات المترفة، ولا تعني الحساسية سوى تحسس الأعماق والخفايا وعدم الاكتفاء بالسطح. أما الخيال فيساعد الكاتب على التحليق بينما أقدامه ثابتة على الأرض، في الراهن والتاريخ معاً. وماذا يعني أن يكون هناك بطل او لا يكون، مادامت الحياة من خلال البشر هي المقصودة بالرواية، وهي التي نحاول فهمها، أو تغيير نظرتنا إليها؟! ثم لا يمكن كتابة شيء لافت ومهم دون شكل على سويته، أي لا يمكن قول شيء بأية صيغة إلا إذا كان يستحق أن نقوله أو نكتبه، بمعنى أن العمليتين يستحيل الفصل بينهما، وأي تساهل في أحدهما يُضعف الآخر، إن لم يبطله؛ بيت القصيد: الفن لا يصادر القول، ولا القول يصادر الفن.
ليس من الصعوبة إهمال هذه الدعاوى، فمثلما نقول الشيء، يمكن قول عكسه، مادام الكلام بلا منهجية ولا دليل أو برهان، وإنما لغو ولف ودوران، لا يخلو من ضجيج، الهدف منه تثقيل أوزان ما يُكتب أو تخفيفها، وهي عملية سيئة جداً ترتد على القارئ بالكثير من الخداع، لا سيما عندما تعمل عليها صحافة ثقافية غير مسؤولة.
لكن لابد من الاعتراف بأن كُتاب الرواية الجدد، أضافوا كماً لا بأس به من الروايات في السنوات الأخيرة، وبالتأكيد، ازدادت الساحة الأدبية غنى بانجازاتهم. غير أن المفارقة هي أنه لا يجمع شيء بينهم قدر تنوع رواياتهم وتباين قدراتهم، وإذا كان هناك من قواسم مشتركة فهي لم تتوضح بعد، وإن كان من الجلي أنهم لا يشتركون في الهدف، وإنما يشتركون في إلغاء غيرهم، وإذا كانوا الآن يتفقون على الاستخفاف بالقضايا الكبرى، وإهمال عملية البناء الروائي، فهذا شأنهم، وربما من هذا المنظار كانت الرواية التي تمثلهم، رواية متواضعة، محدودة بمكانها الضيق وزمانها الراهن، لا تعني غير الذين يكتبونها وصحافة تروج لأي جديد، وكان من الأفضل لهم مكافأتهم بعدم استثناء تجاربهم من النقد الحقيقي، وأن تحترم بقدر ما تضيفه من إتساع إلى مشهد روائي مازال في طور التشييد.
نحن نعيش مرحلة بائسة، يسيطر عليها إعلام قد يوصل الكثيرين إلى الشهرة، وهي مؤقتة، إذ لا يمكن الوثوق بجرائد وقنوات تلفزيونية، لا تميز الجيد من الرخيص. المجد الحقيقي، هو أن نكتب روايات جيدة. لكن من المؤسف أن النقد لم يعد يفصل في ما يُكتب. إن غياب الرؤية اليوم أمر يُفتخر به، تحت زعم رفض الايديولوجية، مع أنها منظومة من الأفكار، قد تجير لأية ثنائية، كالعدالة والظلم والخير والشر. ومن المكابرة الادعاء أن لدى أي كاتب القدرة على الكتابة من فراغ.
الرواية منذ ظهرت ما هي إلا البحث عن المعنى، لا تغييبه، المعنى المتداول مزور ومزيف، لم يعد خاضعاً فقط للاستغلال والسيطرة، وإنما أيضاً للتجارة والتسويق والاعلان. إن السهولة واللامبالاة هما في تبديد أي معنى تحت زعم أن "المضمون" على عداء مع الفن.
إن المنجز الروائي العربي الحقيقي هو الدخول في نسيج الرواية العالمية وإثبات مقدرتنا على مضاهاتها بل والتفوق عليها من ناحية أن الغرب لم يعد صالحاً ليكتب رواياتنا، وإنما نحن الجديرين بكتابتها.