لقد وجِد الروائيُّ ليكون الروائيَّ ليكون عالمَه الذي يعيش ويتخيل معاً، وليس في ذهنه سوى بياضه الذي يخمّر روحه من الداخل، حيث يستحيل سطوراً بعيداً عن أسئلة البدايات والنهايات التي تؤطّر تكوينه الأدبي.
ولا أحد يسيء إلى الروائي مثل الروائي نفسه، وهو يحث القارئ على ضرورة التنبه إلى ما يقول باعتباره المرجِع، لتكون حقيقة الروائي عموماً كما هي متبلورة في تصريحات الروائي ذاك، وليس أن يكون مسكوناً بعالمه الذي لا يحاط به، بكلماته الصعبة التشكيل، إنه بإجرائه ذاك يمارس تحنيطاً لجسده..
وإلا فما الذي أصاب روائيَّنا حين يقول أنه يكتب رواية مختلفة؟ أنه ليس كغيره فيما يفكّر ويتحسس ويلتقط من مؤثرات، أن أسماءه التي تميز وجوه شخصياته تكون غير مسبوقة بطريقة ما، وفي ذهنه أسماء كتاب من الذين سبقوه ومن مجايليه، ونماذج أنس خاصة، وكأن المطلوب منه أن يسمّي المسمى فيما يكتب، وهو غير مطلوب منه، وأنه إذ يعمد إلى ذلك إنما يخون ذاته الإبداعية. إن الرواية محرَّرة من كل قيمة ضبط علاماتية!
ولعل الناظر فيما يجري أدبياً، وفي سياق المماحكات ذات الصلة بالإبداع بين روائينا سورياً، لا تتملكه الدهشة مما يرى أو يتلمس، من مناوشات واختزال لحقيقة الكائن اللطيف الجميل: الفن الروائي، بما أن الجاري ترجمان دقيق لما يعتمل في نفوس أهل الفن هذا من مشاعر وتصورات، تخالف رؤية المبدع وجمالية العالم عبرها.
إذ إن ما يعايَن يلحق الروايةَ بما هو مختزَل. إن الرواية هي الرواية، وليس ما يعزى إليها توصيفاً وتشريحاً.
عن روايتنا إذاً..
ماالذي يصل روائياً بآخر، ما الذي يؤهل الروائي لأن يكون روائياً؟ ثمة الفن الذي ينسّب اسمه إليه. وتلك بداهة!
في الفن تبرز المقامات وقدرته الجمالية في استشراف العوالم، وفي تعيين أزمنتها الخاصة، وحتى مجتمعاتها وقابلية هذه على التكيف مع المستجدات، حيث لا يعود الزمن الروائي مقابلاً لزمن كتابة النص الروائي، وإنما في مواجهة الزمن الذي يعايَن من زاوية الاستمرارية، لتكون الرواية في مستوى طاقتها الإبداعية.
في الحالة هذه، لا تعود العلاقة بين رواية لشكيب الجابري، أو حنا مينه أو نبيل سليمان أو غادة السمان أو ممدوح عزام أو سليم بركات أو فواز حداد أو محمد أبو معتوق أو ماري رشو، أو غازي حسين العلي أو عبير اسبر..الخ، قائمة على أساس التراتب الزمني أو الأسبقية في الزمن، حيث يكون ذلك إجرائياً فقط، وإنما من جهة الزمن الذي تتملكه كل رواية مقدمة إبداعياً، وفي مستوى معين إلى أيٍّ ممن أوردنا أسماءهم، وبالتالي، فإن الحديث عن الرواية يلغي حالة الماقبل والمابعد، مثلما يحرر زمن الرواية من إملاءات التاريخ وأحداثه ومناسباته الضاغطة، تجنباً للوقوع في فخ التنظير الزمكاني، ومفهوم « الأجيالية» البخَّاخي، ومكر الروائي الذي يستعين أحياناً بالتواريخ أو الأحداث التي مازجت عجينته الروائية، ليكون الحديث الأدبي حديثَ أفق الرواية ومدى الاستجابة للتنوع في القراءة، وكأن الذي أبدعها أكثر من واحد وهو واحد، لتكون البوليفونية خاصية الكاتب قبل أن تكون علامة فارقة للرواية، لتكون الرواية جينة متفجرة في جسد متشكل تبعاً لذوق القارئ حقاً.
نعم، يمكن أن نتحدث عن تأريخ كل من» قدر يلهو- الياطر- ثلج الصيف- سهرة تنكرية للموتى- معراج الموت- هياج الإوز- مرسال الغرام- القمقم والجني- الشبيهة- سموات الوحشة- منازل الغياب..»، وهي مجموعة روايات واردة بالتسلسل كما هو تسلسل أسماء من ذكرناهم من جملة روائيينا السوريين، ولكنه الخطأ القاتل لحظة تقديم رواية على أخرى، أو روائيٍّ على آخر، استناداً إلى معيار عمريٍّ، أو المادة التاريخية، أو مساحة الحركة للرواية، لأن ذلك من شأنه عزل الرواية مباشرة عن شرط توالدها الزمني الخاص، وهو أبعد من أن يكون تاريخانياً، أبعد من أن يكاشَف عبر الأسماء والدلالات المباشرة والفظة لها، لأن ذلك يطيح بالروائي قبل أن تكون مصيدة له وللقارئ، أو قبل كل شيء مذبحة الأسماء الاعتبارية التي تنتمي إلى عائلة الأدب اللاآبائية.
إن سلسلة التوصيفات والتعزيزات النقدية والتي يكون المستهدَف منها إبراز خاصية رواية أو كاتب ما، كما في مفهوم» الجيل الروائي- الروائي الواقعي- حداثة الرواية- الرواية الفانتاستيكية- رواية السرد- شعرية الرواية- آباء الرواية أو كلاسيكيوها- كتاب الرواية الجديدة في سوريا وغيرها- رواية المدينة..الخ»، تكاد تشكل تمثيلاً مريعاً بكينونة الفن والرواية عموماً، حيث تحتفظ كل رواية بجملة اعتبارات مما ذكرنا، تؤهلها لأن تكون رواية مشرّعة على زمن ينتظر اكتشاف القارئ أو الناقد، وجنون العالم المتدفق في داخلها. إن ما يراعى هنا هو نوع تاريخ ظهور الكاتب، وعمره الكتابي ومدى نفوذه في محيطه القريب والبعيد، وقدرته على استيلاد رواية تسمّيه، وليس أن يتصدرها اسمُه نوعاً من الملكية السلعية المستهلكة سريعاً، ففي ذات كل كاتب يتوضع عالم لا يقاس كما هو شأن الفن العظيم، تكون مدينته، كما يكون ريفه، أو طبيعته، ودرب تبَّانه، يكون نوع سرده، وأبوة تعنيه، وقدرة على تذرير الأبوة حتى بالنسبة له، ليكون في المتاح الاستمرار متكسبَ جمهرة أسمائه إبداعياً.
في السياق، كيف نحدد زمنياً، وفي عهدة الفن « دون كيشوت- الأخوة كارامازوف- مائة عام من العزلة- ملحمة الحرافيش..الخ؟»، إنها أزمنة متباعدة، لكنها شقيقة، تحيل الزمن إليها، وكأنها هي نفسها تمنح كل زمن داخل فيها ضمان الاستمرار والاعتراف به ذوقياً، أو متعة الشعور بتاريخ آخر، إن الإبداع عصي على التأريخ دائماً.
يشار هنا إلى الأزمنة التي تحاصر رواية ما من إشهار زمنها الخاص، حيث يكون الثقافيُّ السائد، كما هو الزمن الإعلامي، كما هو الزمن الشخصي للكاتب وفي موقع معين، فلا تتوفر الفرصة المناسبة لرواية في أن تقرأ كما ينبغي، ولكن الرواية الينبوعية تقف ضداً على الزمن الذي نعيشه! ولعل رواية يُحتفى بها في زمن معين، وتصبح طي النسيان لاحقاً، أو تكاد تنسى توضح ذلك. فالرواية هنا تكون صانعةَ الروائي بزمن رياضي، بينما يفكّر فيها حسابياً، وما الروائي المسكون بحدس اللحظة، بتعبير باشلار، إلا شبيه بيتهوفن الأصم وهو يتصيد أصوات الغابة ويموسقها، لتكون شاهدة على ينبوعية الفن، وعلى أن صفة» الجديدة» لا تشفع لرواية في أن تتصدر واجهة الزمن، وإنما لعرض بائس أحياناً، وفي وسع الباحث في الشأن الروائي السوري وهو متابع لما يجري في الوسط الكتابي العام والخاص من أحاديث تخص هذا النشاط الشديد الخصوصية، أن يلاحظ كيف تكون مسيرة رواية دون أخرى، ومن يكون وراءها، ومن يزكّيها أكثر من غيرها، وأي رواية تحيل صدمة الزمن السائد إلى قوة صدمة للمحيطين بكاتبها، ليكون زمنها هو زمن الرواية السعيد، إذ يُكتشف فيها ما ليس مسمَّى بعد.
نعم، الرواية هي الرواية، وليس من صفة بقادرة على دق إسفين بين واحدة وأخرى، من موقع الأفضلية، إنما هي ذاتها تقوم بذلك، لحظة اجتذاب قارئها، انطلاقاً من غواية تعنيها، حيث كل قراءة اكتشاف لأخرى، وتلك بدعتها.