السؤال الملح وهل استنفدت – إن أردنا المسايرة – الرواية غير الحديثة، والحساسية غير الجديدة، هل استنفدت أغراضها؟ هل قالت كل ما لديها؟ هل صارت عبئاً على الكتَّاب من الشبان الباحثين عن موطئ جديد لأقدامهم.
ربما كان بلزاك في الرواية الفرنسية في رواياته الواقعية ثورة على الرومانتيكية التي أثقلت البورجوازية الجديدة بعاطفانيتها، فجاء بلزاك برواياته المؤرخة اجتماعياً لحركة المجتمع الفرنسي بعد انهيار الثورة البورجوازية وتحللها وقدوم موجة مترنيخ السوداء التي غطَّت أوروبة، فكانت الواقعية الصارمة، وكان نقادها، وكان تأثيرها الذي ما يزال مستمراً حتى الآن رغم ثورة الطبيعيين عليها بعد هزيمة باريس والكومونة أمام جحافل الألمان، وبروز شريحة الفساد العقاري، والأثرياء الجدد في فرنسة، فكانت المدرسة الواقعية الطبيعية وكان من أبرز كتابها إميل زولا، وكانت روايته «الوحل» صورة عن فساد الطبقة المالية الجديدة القائمة على الفساد وعلى استغلال أجهزة الدولة لدعم وحماية فسادها، ثم كانت رواية «نانا» الشهيرة والتي تتحدث عن النساء المحظيات المصاحبات لهذه الطبقة الغارقة في أبيقورية لا تفكر في وطن ولا غد.. إلخ.... ولكن الطبيعية لم تستطع مسح الرواية الواقعية البلزاكية، لكن من استطاع الحلول محلها كان الرواية الواقعية الاشتراكية والتي كان لا بد منها لدعم النظام السياسي الجديد بعد انتصار ثورة أكتوبر وسيطرتها على مناحي الحياة في المجتمع كله، ومنه المنحى الثقافي، وظهر النقاد، وظهر الرقباء، وكان جدانوف الشهير، وكان انتهازيو الكتاب الذين أرادوا مسايرة الموضة الصاعدة، المموّلة جيداً، والموزعة جيداً عبر العالم في صرخة «الأدب في خدمة المجتمع» وكان هذا يعني ما عرفناه في حينه تحت اسم أدب الالتزام الذي تحوَّل على أيدي ضعيفي الموهبة الكتابية إلى عمل ميكانيكي كان من نتيجته أن الأدب الروسي الذي قدَّم سيد الرواية المطلق دوستويفسكي وقدَّم تولستوي وقدَّم تورجنيف إلى آخر الأسماء الروسية الكبيرة لم يقدم اسماً مهماً واحداً عبر إدارة الأدب من قبل الدولة، وتحوِّل الأدب إلى خدمة المجتمع!!!
نحن في بلاد الشام كنا دائماً أصداء للموجة التي تحرك العالم ويصلنا صداها متأخراً بضع سنين، وأحياناً بضع عقود، وأحياناً بعد زوال تأثير الموجة على العالم الذي أنشأها، ولكنا.... هه.... نسمع بها ونعلن أننا ملتزمون بها وأنَّنا من أتباع هذه المدرسة الحديثة!! وأننا ضد كل أولئك السابقين لنا من الرجعيين الذين ظلوا مخلصين لصدى الموجة السابقة!!!
كانت الترجمات الروائية الأولى ترجمات عن الواقعية الفرنسية، فظننا أن الرواية ليست إلا الواقعية، ثم جاءت الترجمات عن الرواية التاريخية، فلحقنا بالركب وانهمرت علينا الرواية الميكانيكية التاريخية، ثم جاءت الصدمة. الرواية الواقعية الاشتراكية وانهال علينا النقاد المحليون ترجمة ونقلاً عن نقاد وشارحي أهمية الرواية الواقعية الاشتراكية الملتزمة بقضايا الشعب.. إلخ ولحقنا بالموجة حتى وصلنا إلى الميكانيكية، ثم.... تسللت الوجودية، وهكذا تحوَّل من لم يقبل بالرواية الواقعية الاشتراكية إلى الوجودية التي اختصرها صديق قديم لي كان يتحدث بحنين عن تلك الفترة: إطالة الشعر والجلوس على الرصيف والنظر إلى العالم في ضجر وتدخين السكائر بلا فلتر، ثم حبس الدخان في الفم لشرب الشاي الثقيل وراءه، ودفع الدخان إلى المعدة للحصول على النشوة!!!!
ولن أمعن في الحديث عن الأدب اللاتيني والواقعية السحرية، بل سأتحدث الآن عن الموضة الجديدة، الأدب الذي جعل همَّه الجسد والمهمشين كما يعلنون لا بأس. كل هذا جميل. ولكن وبعد أكثر من مئة وخمسين عاماً من دخول الرواية الأوروبية ولو بسذاجة إلى اللغة العربية ألم يئن الأوان إلى أن يراكم الأدباء معارفهم ومحاولاتهم الكتابية للبحث عن هوية خاصة بنا كما فعل اللاتين في أميركا والروس في روسيا وصنع موضتنا الخاصة بعيداً عن الصرخات الشعاراتية: اقتلوا الأب وابحثوا عن حداثتكم الخاصة ولو في تاهيتي!!!