وذي الرؤية الواقعية للتصرف الإرادي في عالم لم تعد أميركا القطب الوحيد المهيمن مسيطرة على تخومه كما كانت تخطط وتعمل في أعقاب حوادث الحادي عشر من أيلول .2001وبناء عليه فإن الصعيد العالمي يشهد جدلا بين أميركا ودرعها الصاروخي في أوروبا الوسطى وبين روسيا الاتحادية التي تنتصر لأمنها القومي ومجالها الحيوي, وعلى صعيد الفضاء كذلك هنالك محاولات رفض روسية جادة لاستخدام الفضاء الكوني في الحروب حيث إن هذا الحال- كما صرح عنه مسؤول روسي كبير- قد يقود إلى حرب عالمية ثالثة.
وفي أوروبا تجتمع بالكثير من الآراء التي لم تعد ترغب بأن تبقى أوروبا السياسية ملحقة بالاستراتيجية السياسية العالمية لأميركا, وما المصير الذي آل إليه بلير إلا صورة واضحة عن تململ أوروبي وواضح وبرم أكيد من عقم السياسة التي تنتهجها إدارة الرئيس بوش على صعيد إدارتها للعالم الراهن.
وفي هذا السياق تبدو لنا أشكال هامة من التنسيق بين روسيا والصين لمواجهة المخاطر التي تسببها لهما أميركا في مناطق مصالحهما الآسيوية على وجه الخصوص, كما تبدو لنا حالات من الضعف الأميركي المتباينة في مؤسستي الشرعية الدولية ولاسيما في مجلس الأمن حيث لم يعد القرار الأميركي عصيا على المناقشة والمداولة والرفض بل أصبحنا نرى تراجعات كثيرة للدبلوماسية الأميركية, ومتعلقات القرار الدولي الأميركي في مناطق ما يهم أميركا أن توطد سلطتها فيها وتمد نفوذها إليها.
وعلى الصعيد الإقليمي نتوصل دون الحاجة البرهانية الكبيرة إلى أن إسرائيل دولة الاعتماد الأميركي في المنطقة لم تبق الدولة القوية المرهوبة الجانب, ولا سيما بعد سقوط قوتها أمام صمود لبنان المقاوم صيف العام 2006 وما تلا هذه المسألة من محطات اختبار بين سورية الصامدة و(إسرائيل) ونتج عنها أن الحروب لم تعط إسرائيل النتائج التي تؤمن لها استقرار الدولة أو تقنع الشعب بجدواها وها هي إحصائية الهروب من الخدمة العسكرية داخل الكيان الصهيوني تصل في هذا العام إلى 25% وصارت استطلاعات الرأي لا تنضبط بإرادة الرقابة العسكرية في عدم إفشاء مثل هذه الأسرار حفاظا على الروح المعنوية لدى المستوطنين الصهاينة في الأراضي العربية المحتلة, ونقل عن جندي فار من الخدمة العسكرية وعن أسباب فراره فقال: لا أحب الخدمة في الجيش ولست مقتنعا بأن الحروب بعد اليوم هي الحل.
وفيما يتعلق بالملف الفلسطيني فإن أميركا رغم كل هذا الدعم اللامتناهي لإسرائيل لم تمكنها من فرض إرادتها على الشعب العربي الفلسطيني المقاوم في غزة والضفة الغربية والقدس, وها هي القدس في يومها العالمي تعيد تفعيل القضية الفلسطينية من جديد في الذهن الدولي ليتضح أن تعنت إسرائيل و عدم احترامها لقرارات المجتمع الدولي وعدم قبولها بقاعدة السلام (الأرض مقابل السلام) ومرجعية مدريد و المبادرة العربية من القمة العربية حول السلام في المنطقة كل ذلك يجعل من إسرائيل الدولة الخارجة عن مفاهيم المجتمع الدولي وطريقته في استتباب الأمن و السلام العالميين, رغم محاولة الرئيس بوش الإنقاذية لإسرائيل في طرحه لمبادرة الاجتماع الدولي لحل القضية بين اسرائيل والفلسطينيين, والرغبة في الالتفاف على عملية السلام العادل والشامل ومحاولات كونداليزا رايس بألا يكون العرب فلسطيني أكثر من أهل فلسطين, رغم ذلك فما زال الطريق إلى هذه المبادرة محفوفا بصعوبات لا تعطي أي أمل بنجاحها خاصة حين تصر أميركا ومعها إسرائيل على عدم تشميل المبادرة الأصل في القضية أي بقية ما احتلته إسرائيل من أراض عربية, وطبيعة السلام القائم على العدل ومنطق العقل السليم في الاعتراف بالدولة ذات السيادة والمتصلة والقابلة للحياة, وقضية اللاجئين والقدس العاصمة الوطنية و الروحية للعرب والشعب العربي في فلسطين على حد سواء.
وفي العراق أصبحنا نشعر ولا سيما بعد زيارة براون الخاطفة له بأن الرغبة في الانسحاب البريطاني منه باتت حقيقية معاشة والقناعة بعدم جدوى البقاء فيه أصبح لها العديد من المناصرين داخل المجتمع الأوروبي و الأميركي أيضا وفي أعلى المستويات و المؤسسات, وما حدث وما زال يحدث حول الملف النووي الإيراني بدأ يشعر العالم بأن سياسة أميركا المزدوجة والقائمة على أكثر من معيار في النظر إلى مشكلات المنطقة لا تكسب تأييدا خاصة حين يطرح الخطاب الحربي في التعامل مع إيران, ويوجد اليوم عدد كبير من الدول المهمة في السياسة الدولية لا يسير وراء التخطيط للهجوم على المنشآت النووية الإيرانية ويقر بحق إيران في الاستخدام السلمي للطاقة النووية, كما أصبح يوجد من الدول من يتنبه إلى خطورة أن تبقى إسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة إذ إنه مع هذه الحالة من العسير الوصول إلى وضع إقليمي مستقر تتحقق معه حالات السلام المنشودة, أو وسائل التعايش اللازمة بين دول المنطقة.
وهكذا سنجد أنفسنا في الأمة العربية عبر أهم روافع الحياة السياسية فيها أمام عدد كبير من المتحولات الدولية والإقليمية الجديرة بالقراءة وترتيب القرار السياسي العربي وفقها, ولعلها ستكون في رأس هذه القراءة مسألة التقسيم التي شرعت الاقتراحات لحل المعضلة الأميركية في العراق تصدرها عبر رؤى من مجلس الشيوخ الأميركي وتلعب اللعبة السياسية حولها بين من يؤيدها ومن يرفضها شكليا حتى تنضج لحظة الوصول إليها, ومع وجود مثل هذه النيات التقسيمية للعراق لكي تكون منطلقا لامتداد المشروع التقسيمي إلى لبنان وفلسطين والسودان ومن سيأتي دوره من أقطار العروبة, نجد بالمقابل أن اتجاه سير المتحولات العالمية والإقليمية لم تعد أميركا صاحبة الخط التأثيري الأهم به, الأمر الذي يمنح السياسة العربية الرسمية المزيد من فرص التلاقي والتحاور حول مستقبل الجميع في الأمة الواحدة فهذا الجميع حين يكون على خريطة التهديد الواحد فمن المطلوب أن يصحوا بكامل قواه, وطاقاته وفعاليته من منظور وطني وقومي وتاريخي وحضاري باعتبار أن التهديد واصل إلى هذه المجالات التي تتوقف عملية وجودنا جميعا على حمايتها, كما يتوقف مصيرنا ومستقبلنا كذلك.