ذاك أن الفكاهة اتخذت طابعاً خاصاًً فيه قد يوصف بأنه شعبي فإنها تشكل عنصراً أساسياً في حكايات هذا الكتاب, ونريد أن نتوقف عند واحدة منها, هي المعروفة باسم (حكاية مزين بغداد).
وعلى طريقة الكتاب, بصورة عامة فإن أحداث الحكايات تتشاكل وتتداخل, وفي بعض الأحيان تبدأ الحكاية من نهايتها, على غرار ما يفعل اليوم بعض القصاصين المحدثين, ثم يعود الراوي القهقرى رويداً رويداً.. حتى يعود إلى البداية.
وكما هو الحال, في كثير من حكايات هذا الكتاب فإن الحب هو سيد المواقف, ولكن الأحداث والوقائع التي تتكشف عنها هذه المواقف, تنطوي على تعرية للسلوك الإنساني, ومحاولة للتغلغل وراء النوازع البشرية.
حين رأى الحلاق
نحن إزاء شاب هو أحسن ما يكون من الجمال غير أنه أعرج, دخل مع صاحب دار كانت فيها وليمة, فلما أراد الجلوس رأى بين المدعوين مزيناً أي: حلاقاً -فامتنع عن الجلوس وأراد المغادرة, غير أنهم ثنوه عن ذلك, وعندما سألوه عن سبب رغبته في الخروج, أشار إلى الحلاق وقال: إن هذا هو السبب وإذ استفسروا منه عن المزيد روى لهم الحكاية كلها, من البداية حتى النهاية مستهلاً إياها بقوله:
هذا سبب عرجي.
جرى لي مع هذا المزين أمر عجيب في بغداد بلدي, وكان هو سبب عرجي وكسر رجلي وحلفت أني ما بقيت أقاعده في مكان, ولا أسكن في بلد هو ساكن فيها, وقد سافرت من بغداد ورحلت منها وسكنت في هذه المدينة, وأنا الليلة لا أبيت إلا مسافراً.
أما الحكاية فهي أن هذا الشاب وهو ابن أناس ميسورين, كان مبغضاً للنساء, لكنه رأى ذات يوم مصادفة فتاة كانت تسقي الزرع في حديقة منزلها.. فما إن رأته حتى بادرت إلى اقفال الطاقة أو النافذة التي رآها منها..
لكن النار انطلقت في قلبه واشتغل خاطره بها, وانقلب بغضه للنساء محبة, ويتابع الشاب حكايته قائلاً:
فما زلت جالساً في المكان, أي قرب منزل الصبية إلى المغرب وأنا غائب عن الدنيا من شدة الغرام, وإذا بقاضي المدينة راكب, وقدامه العبيد ووراءه خدم فنزل ودخل البيت الذي اطلت منه تلك الصبية فعرف أنه أبوها.
الموعد يوم الجمعة
وتتوالى أحداث الحكاية, وتتوسط امرأة عجوز تعرف الصبية بإقامة الصلة بينها وبين الشاب الولهان.. ثم تأخذ منها موعداً بأن يزورها الشاب في بيتها فيما يذهب أبوها يوم الجمعة إلى المسجد..وتنصحه العجوز في اليوم ذاته بقولها:
- إن معك من الوقت اتساعاً زائداً, فلو مضيت إلى الحمام وأزلت شعرك لا سيما.. من أثر المرض لكان في ذلك صلاحك.
وقال الشاب لغلامه: امض إلى السوق وائتني بمزين يكون عاقلاً قليل الفضول لا يصدع رأسي بكثرة كلامة ويتابع قائلاً, فمضى الغلام وأتى بهذا الشيخ.
فلما دخل سلم علي فرددت السلام فقال: أذهب الله غمك وهمك, والبؤس والأحزان عنك, فقلت له: تقبل الله منك, فقال: أبشر يا سيدي, فقد جاءتك العافية, أتريد قص شعرك أو اخراج دم, فإنه ورد عن ابن عباس أنه قال: من قصر شعره يوم الجمعة صرف الله عنه سبعين داء, وروي أيضاً أنه قال: من احتجم يوم الجمعة, فإنه يأمن ذهاب البصر وكثرة المرض.
الحلاق يقيس الوقت
ويحاول الفتى وضع حد لثرثرة الحلاق ويأمره أن يبادر إلى الحلاقة, لكن هذا أخرج اصطرلاباً وهو آلة قديمة لقياس الوقت فأخذه ومضى إلى ساحة الدار ورفع رأسه إلى شعاع الشمس وقال للشاب: اعلم أنه مضى من يومنا هذا, وهو يوم الجمعة عاشر صفر سنة ثلاثة وسبعمئة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بمقتضى ما أوجبه علم حساب المريخ سبع درجات وست دقائق, واتفق أنه يدل على أن حلق الشعر جيد جداً, ودل عندي على أنك تريد الاقبال على شخص وهو مسعود, لكن.. بعده كلام يقع شيء لا أذكره لك..
حلاق وفلكي ومنجم
إذن, فإننا لسنا إزاء حلاق ثرثار وحسب, بل هو فلكي.. ومنجم أيضاً!
ثم إنه يمضي إلى حدود بعيدة في ثرثرته, مؤكداً أنه سيرافق الشاب سنة كاملة, فإذا هو يقول له: إنك قاتلي في هذا اليوم لا محالة.
غير أن الحلاق يستنكر كثيراً أن يرميه الشاب بالثرثرة فيقول له: يا سيدي أنا الذي تسميني الناس الصامت لقلة كلامي?! دون اخوتي?! لأن أخي الكبير اسمه البقبوق -أي: الذي يتكلم كثيراً بصوت مرتفع- والثاني : الهدار, والثالث: بقبق, والرابع اسمه الكوز الاصوفي والخامس اسمه العشار, والسادس اسمه شقالق.
العجلة من الشيطان
وعندما عاد الشاب إلى استعجال الحلاق, قال له: تمهل فإن العجلة من الشيطان, ثم عاد إلى الاصطرلاب وقال: بقي من الوقت ثلاث ساعات.
يقصد موعد صلاة الجمعة ثم اصر على أن يعرف سبب استعجال الشاب, فقال: أريد أن أمضي إلى دعوة عند أصحابي, وهنا تذكر الحلاق أنه دعا جماعة إلى داره.. ولا يدري ماذا يقدم لهم, فتبرع له الشاب بكل ما عنده كي يتخلص من ثرثرته.. ويمضي إلى موعده مع الصبية بعد أن يتفضل الحلاق بقص شعره.
وظل الحلاق يثرثر ويستطلع الشاب سر استعجاله فقال له الشاب: إن الموضع الذي أمضي إليه لا يقدر أحد أن يدخل فيه غيري.
فقال الحلاق: أظنك اليوم في ميعاد أحد.. وإلا كنت تأخذني معك, وأنا أحق من جميع الناس وأساعدك على ما تريد, فإني أخاف أن تدخل على امرأة أجنبية فتروح روحك, فإن هذه مدينة بغداد لا يقدم أحد أن يعمل فيها شيئاً من هذه الأشياء..
خذ كل شيء.. وامض
وفي هذه الاثناء فرغ الحلاق من حلاقته شعر الشاب, وقد أراد هذا أن يخادعه لعله ينصرف عنه, فأعطاه ما عنده من طعام وشراب, وقال له: امض إلى بيتك وأنا انتظرك حتى تمضي معي.. فلم يكن من الحلاق بعد أن خرج إلا أن اعطى الطعام والشراب إلى حمال ليوصله إلى منزله, وأخفى نفسه في بعض الأزقة. وفيما دخل الشاب منزل الفتاة وقد وجد الباب مفتوحاً فوجىء بعد كل ذلك التأخير الذي سببه الحلاق الثرثار بأن والدها القاضي قد عاد إلى الدار فبحث لنفسه عن مخبأ.. ريثما يغادر الدار.. أما الحلاق فقد كان واقفاً يراقب الأمور في الخارج.
وتشاء المصادفة أن يضرب القاضي إحدى جواريه فإذا هي تصرخ, وعندئذ فإن الحلاق ظن أن القاضي يضرب الشاب فجمع الناس ومزق ثيابه وراح يصرخ: واسيداه.. واسيداه.. وبهت القاضي وسأل الناس المتجمهرين أمام بيته: يا قوم ما القصة? فقال له الغلمان: قتلت سيدنا. وإذ مضى القاضي في تساؤله: وماالذي فعله حتى أقتله? ومن أدخله داري ومن أين جاء و أين قصده??
الحلاق يحكي الحكاية كلها
قال الحلاق: لا تكن شيخاً نحساً فأنا أعلم الحكاية وسبب دخوله دارك وحقيقة الأمر كله, وبنتك تعشقه وهو يعشقها فعلمت أنه قد دخل دارك وأمرت غلمانك فضربوه.. والله ما بيننا إلا خليفة أو تخرج لنا سيدنا ليأخذه أهله ولا تحوجني أن أدخل وأخرجه من عندكم وعجل أنت بإخراجه, فالتجم القاضي عن الكلام وصار في غاية الخجل من الناس وقال للمزين: إن كنت صادقاً فادخل أنت وأخرجه.. وما إن رأى الشاب المزين حتى أراد الهروب فلم يجد سوى صندوق دخل فيه ورد الغطاء عليه, وفيما كان الحلاق المزين يبحث عن الشاب وجد الصندوق فوضعه على رأسه.. ومضى فما كان من الشاب إلا أن فتح الصندوق ورمى بنفسه على الأرض فانكسرت رجله وصار يجري وهو على هذه الحال في أزقة بغداد والحلاق وراءه يصيح:
باع داره في بغداد
أرادوا أن يفجعوني في سيدي, الحمد لله الذي نصرني عليهم وخلص سيدي من أيديهم.
وفي نهاية الحكاية لم يجد الشاب وسيلة للتخلص من الحلاق سوى بيع داره وكل ما يملك ومغادرة بغداد.. ولكن ها هو ذا وجهاً لوجه أمامه مرة ثانية.
الحواشي:
(1) ألف ليلة وليلة, يصعب التأكد من أصل هذا الكتاب والمرجح أن له أصلاً هندياً فارسياً هو كتاب (هزار أفسانة) أي ألف خرافة, وقد نقل من الفهلوية في أواسط القرن التاسع -الثالث الهجري, وأضيفت إليه قصص عربية اصطبغت بالبيئة البغدادية والمصرية, أحياناً الشامية ولا تتجاوز حكاياته ,264 أما رقم الألف وواحد فإنه عدد الليالي التي حكت فيها شهرزاد حكايات الكتاب.
أما أولى طبعاته فقد كانت في (كلكوتا) بالهند سنة ,1814 ومن أشهر قصصه: السندباد وعلي بابا, ومعروف الاسكافي.
(2)ألف ليلة وليلة -منشورات دار الهدى الوطنية -بيروت -لبنان -الطبعة الأولى 1981 -المجلد الأول -ص 137 فما بعد.