هذا الرجل الذي تعايش مع الأرض الصلبة، فأكسبته تلك المناعة ضد المرح أوحتى الابتسامة، سأل ابنه البكر عندما حصل على الشهادة الثانوية عما ينوي أن يفعل؟ أجاب الابن بالثقة والجدية التي أخذها عن أبيه:
- أريد أن أسافر إلى ألمانيا لمتابعة الدراسة.
بالجدية والاقتضاب في الكلام اللذين عرف بهما الأب أجاب ولده:
- هيئ نفسك للفسر، وأريدك أن تحصل على الشهادة العالية.
خرج الولد من مدينته الصغيرة التي تتبع لها قريته التي ولد فيها أبوه وعاش قسماً كبيراً من شبابه، مودعاً أهله متوجهاً إلى ألمانيا، يحمل في محفظته شهادة البكالوريا والأوراق اللازمة لدخول الجامعة، ويحمل في قلبه وجه أبيه الصارم، وعبارته الحادة التي تطلب منه الحصول على الشهادة الكبيرة.
بعد سنوات الدراسة عاد الابن إلى مدينته يحمل الشهادة العالية التي طلبها أبوه، بالإضافة إلى الجنسية الألمانية التي منحت له لتفوقه في الدراسة، وجديته في العمل حيث حصل على وظيفة إدارية مهمة في إحدى شركات الدواء المعروفة عالمياً.
أعود إلى الرجل الريفي ذي الملامح القاسية، والوجه الذي لايعرف الضحك أو الابتسام، أو حتى التعبير عن العواطف، ذاك الرجل الذي كانت نظرته الحادة تدخل الرعب والوجل إلى الجميع.
حين وصل الابن العائد إلى بلده من بلاد الغربة، استقبلته الأسرة والأصدقاء والمعارف والأقرباء، وفي نهاية السهرة بعد انصراف المهنئين من الأقارب والأباعد والجيران واقتصار الجمعة أو اللمة فقط على أفراد الأسرة، قام الولد القادم من ألمانيا، إلى محفظته الكبيرة وأخرج مجموعة الهدايا التي أحضرها معه، وبكثير من الفرح قدم لكل من أفراد أسرته هديته، بعدها سادت فترة صمت ثقيلة على الجميع، فلقد حصل كل واحد من أفراد الأسرة على هديته باستثناء الوالد الذي لم يقدم له ولده أي شيء!
نظر الجميع إلى وجه الأب الذي كان حيادياً، ولم يجرؤ أحد على التعليق، بعد لحظة قام الابن إلى محفظته ثانية، وعاد يحمل ورقة ملفوفة بشريطة ملونة قدمها لأبيه قائلاً:
- أما أنت يا والدي، فلم أجد لك هدية أكثر أهمية من تلك، إنها شهادة الدكتوراه في الطب.
مرة أخرى نظر الجميع إلى الوجه القاسي الذي اعتاد الأب أن يحمله، فرأوا ما لم يعتد أحد أن يراه في ذاك الوجه الصارم.. كانت دمعتان قد أفلتتا من عينيه وسالتا على الخدين، وعلى شفتيه ما يشبه ابتسامة ملأى بالفرح والحبور.
لعل الكثير يعرف أن نبتة الصبار هي الأقسى بين النباتات، وأن هذه النبتة القاسية تفصح عن زهرة كبيرة مرة واحدة كل سنة لاتعيش لأكثر من يوم أو يومين، وأن هذه الزهرة هي الأجمل والأرق من معظم ما تقدمه النباتات من أزهار.
لعل دمعتي وابتسامة هذا الرجل قاسي الملامح كانت هي زهرة الصبار.