ويسألني صغير ونحن نجوب الرقعة المتقدة ازدهاراً:
من صنع هذا العلم؟.. وكيف؟
قلت: إنها الأيدي المبدعة التي ما فتئت تجتهد لتنجز منه في كل مكان قطعة.لقد تعاون الجميع على صنعه، فبدا بهذا الشكل البهي، همست شابة تقف إلى جانبنا:
«الرايات رمز الشعوب، ونحن نتباهى برايتنا العظيمة، وبالأصابع التي غزلت إعجازه العجيب الناطق بخصوصية المرحلة..»
ثمة هوية كان...جميل الشكل عميق المرمى، متجانس الأبعاد فيه خيال صاخب، وشيء قريب من حال الانطلاق، لوحة فنية راقية، تترجم واقع الأمة بشموخها وإبائها، وتعلن انتماءها العزيز، إنه العلم الذي رفرف فوق القمم الخضراء أيام الثورات ضد المستعمرين، فكان عنواناً للحرية و الاستقلال، وكان بمثابة منارة أضاءت فضاءات المستقبل، ورسمت خطوطه العريضة، وخصت ملحماً نضالياً لكل من أحب السير على طريق المجد، فبقيت بصمته مقرونة بالقدسية وصور الكفاح التي شتت أجنحة الغربان، وأبعدت دياجير الظلمة، وقارعت الهوان المفروض بمثابرة ودأب وإصرار ومقدرة على إثبات الوجود بإمكانات جد متواضعة أقضت مضاجع المستعمر، و غيبت الطمأنينة عن عالمه ويوم رحل هذا المستعمر عن ترابنا العربي، علت الزغاريد، ونضجت الأغنيات، وانفرج الوقت عن ابتهاج، وحفل الأفق برفيف الرايات... فردد الملأ:
دم هكذا في علو أيها العلم
فإننا بك بعد الله نعتصم
يومها كان الجميع ضد المحتل، يداً واحدة، وقلباً واحداً، وكان العلم ناطقاً باسم أهله، وشاهداً على عصره، وساطعاً بأنوار الحقائق المتوارثة عن أسلاف تطلعوا إلى المستقبل بعين ثاقبة، مستشفة، نافذة، يخترق نورها الحدود والحواجز ولا يقف عند حال من الأحوال.
وفي ذلك الوقت، رفعت سورية لواءها، فغدت وجوه أبنائها أكثر إشراقاً،تفخر برجالها ونسائها الذين أبوا إلا أن يكونوا نماذج رائعة للمحبة تهتف في كل حين: عاش العلم.. عاش الوطن... اليوم تتكرر المشهدية في محاولة لإثبات القيمة والمعنى، يرفرف العلم بين يدي الجيل، فيطلق في رفيفه ألف قرار، وألف نبض، يعلق فوق الصدور الوسام تلو الوسام، يدافع ما استطاع عن الأصالةوالجذور، يعيش تميمة تعطي دفقها الروحي للحنايا والمهج التي تهتف له وباسمه، فيبدو مهرجان الراية السورية أجمل المهرجانات وأصدقها في زمن باتت أوراقه على اختلاف.. زمن يشتتنا، يفرقنا، يكيد لنا... أو نكيد لبعضنا مع أن الجميع يحب العلم، ويتبارى في السباق إليه، وحمله، والتكني به... لماذا إذاً يحصل ما يحصل؟
ولماذا لا نسعى كلنا، أبناء سورية الغالية، إلى تجاوز الخلافات ونبذ الأحقاد، والالتفاف حول علم واحد هو رمز للوحدة الوطنية، واللحمة والانتماء إلى الوطن الذي نشرب من مائه، ونتنسم هواءه، ونعيش في أمانه...دورنا اليوم ريادي وخلاق، وواجبنا كبير تجاه أمتنا وشعبنا بكل أطيافه وفئاته، من أجل ألا يأتي يوم نستيقظ فيه فلا نرى علمنا موجوداً... حينها سيسألني صغير:
أين علم بلادي؟
فأجيب:
لا أدري!.