برجل أحسست أني أعرفه، فصورته حاضرة في الذهن، دون أن أعي أو أدرك ماهية تلك المعرفة ولعل صديقي المضيف انتبه لذلك فقال: ألا تعرفه؟ إنه الشاعر شوقي بغدادي ثم قدمني إليه باسمي وعلى الفور انجلى الغموض عن ذاكرتي التي تحفظ صورة هذا الرجل عن ظهر قلب، مع أنني لم أكن قد التقيته من قبل. لكن الصورة التي غالباً ماكنت ألمحها في الصحف والمجلات، بالإضافة إلى اسمه الواسع الانتشار كشاعر معروف قد جلا عني كل الغموض.
ولعل المفاجأة التي وضعتني وجهاً لوجه أمام شخص يمتلك هذا الحضور على الساحة الثقافية والشعرية قد جعلتني أجلس إلى الكرسي بأدب جم.
كان الشاعر شوقي بغدادي يروي لصديقنا المشترك سحبان عن أيامه في الجزائر التي عمل بها مدرساً لمادة اللغة العربية. فتابع حديثه بعد أن قطعته للحظات هي مدة دخولي والتعارف ثم جلوسي المهذب فتابع الرجل حديثه والشاعر شوقي بغدادي الذي ألِفَ المنابر شاعراً متميزاً بشعره وإلقائه كما عاشر مهنة التدريس لزمنٍ طويلٍ، فقد اكتسب قدرة كبيرة على اجتذاب واهتمام المستمع إليه حتى ولو كان يتحدث في أي موضوع عادي. فكأنه يلقي درساً أو قصيدة أمام الطلاب أو الجماهير حيث يثير انتباه ووعي سامعيه، بالإضافة إلى قدرته على صياغة الجمل والمفردات بشكل متميز وبسبب ما اختزن في ذاكرتي عن الشاعر شوقي بغدادي، إضافة إلى أسلوبه الذي ذكر في الحديث، فقد اكتشفت أنني قد جلست أمامه كتلميذ مدرسة في الصف، مهذباً في حضرة الأستاذ مصغياً لما يقول.. إلى أن وصل في روايته عن انتهاء إعارته للجزائر وعودته إلى بلده سورية، وقد أحس أنه تقدم في السن ثم التقى بأم طرفة التي شعر بانشدادٍ إليها لاهتمامها بالشعر وما آل إليه ذلك من ارتباط وزواج.
إلى هنا وأنا متخذ وضعية التلميذ أمام الأستاذ، وفجأة ومع عبارته عن تقدم السن والزواج استيقظ عندي حب المشاكسة لدى كل من يجلس إلى مقعد الدرس. وكنت متميزاً في ذلك أيام المدرسة فقلت له بروح المشاكسة التي غابت عني لزمن بعيد لأنني وقتها كنت أعمل بمهنة التدريس وأتعرض للمشاكسة من الطلاب: والله يا أستاذ شوقي الواحد منا يتزوج في إحدى مرحلتين أما في سن مبكرة وذلك أن عقله لم ينضج بعد أو في سنٍ متأخرة وذلك بسبب الخرف وفي أي من تينك المرحلتين فالعقل في حالة الغياب.
نظر إلي الاستاذ شوقي بغدادي ملياً، وتأمل الشخص الذي بقي مهذباً ومؤدباً لوقت من الزمن، وفجأة يصدر عنه هذا الكلام ! قال: حضرتك متزوج؟ قلت: نعم. قال: وفي أي من تلك المرحلتين تزوجت؟ قلت: لا في هذه ولا تلك.
بل في المرحلة الوسط بينهما.. لكن يا أستاذ شوقي والله العظيم كانت ساعة غفلة.
كاد الأستاذ شوقي أن ينقلب على قفاه من شدة الضحك وشيئاً فشيئاً أخذت صورة الشاعر النجم الذي لم أكن اراه إلا من خلال الصحف والمجلات، تغيب لتتضح بدلاً منها الملامح الانسانية لكائن من لحم ودم ومشاعر.
مع تلك المشاكسة الخبيثة التي صدرت عني والضحكة الانسانية الرائعة التي صدرت عن شوقي بغدادي، أصبحنا أصدقاء وعلى درجة متميزة من الحميمية والمودة والحب.