ومن قبل بهذا الرجل.. ثمانون حولا ونيف من الأعوام, دهر طويل, ثم نصير أصدقاء يا ابراهيم بركات جديد.. وبعد تلك الزيارة التي دخلت فيها منزلا عرفت كل لمحة فيه, وكأنني أنتمي إليه, بأهله الذين منذ استقبلوني عند الباب صرت منهم وهم مني..
وقبل أن أعتنق نفسي لأحاورك لعل ملامح صدقك تصير عنوانا على صفحة نخطها معا اليوم بصداقتنا وصدقنا..
لابد أن أنصف زوجتك, تلك المرأة الحكمة.. وليست فقط الحكيمة, المرأة الصبر.. وهي أكثر من صبورة.. المرأة التي تعانق شموخ العطاء.. الزوجة والأم.. سيدة المنزل الخضراء عطاء ووعيا وسماحة.. زوجة الكاتب أم هذا البيت الكبير بالمحبة والطيبة والأخلاق احتضنتي كما لو كنت طفلتها وازداد تعلقي بالكاتب ومن حوله والحكاية الموسومة في كل تفاصيله حتى المكان الذي جلست فيه لأكون قرب ابراهيم جديد وأمسك بيده..
المرأة التي اختزنت ماضيه وحاضره.. خياله وعاطفته.. ودفعت ثمن كل هذا من إرادتها وتصميمها, لتكون له سندا وذاكرة ورفيقة وشاهد على عهد يعتق الآلام فرحا وابتسامات ورضا توزعه على الجميع..
في بيتك يا ابراهيم جديد لعلي كنت أقرأ نفسي لو كنت يوما ولدت في زمن يسبق هذا الزمن..
واتفقنا على وصال أدبي لا يقطعه سيف الزمن ولاتعرقله دوامة النسيان, وطالعتك حوارا أردته منشورا ليعرف العالم كم يتألم الكاتب في غربته عن محيطه بسبب إبداعه وتغريده خارج السرب, ومن البديهي وأنا أقف معه على عتبة قرن ينصرم أن أبدأ حواري معه بسؤال عن الزمن.
• ابراهيم جديد متى بدأت الكتابة؟؟
•• في سن مبكرة ربما كنت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري, ووقتها كنت أكتب من واقعي من مشاهداتي, من بيئتي.. تلك البيئة التي كنا فيها فقراء جدا وكنا نحاول أن نعتد بأنفسنا ويواجهنا الفقر, لكن وقتها لم أكن قد عرفت الكتابة إلا بفطرتها, لاأعرف كيف أقيس ما كتبت بهذه الأيام لأنه لم يبق منها شيء, لم أكن أعرف سلامة القصة من الناحية الأكاديمية واللغوية, كنت أصور وجودي مع بيئتي.
• هل ما كتبته في روايتيك الأولى والثانية يعتبر بمثابة سيرة ذاتية لك؟
•• كل ما كتبته كان انعكاسا لسيرتي الذاتية وكان ألمي ينبع من شعوري بالفوارق المادية مع رفاقي وكنت وقتها أعمل بالرعي مثل كل من يشبهوني بظروفهم المادية التعيسة.
• تتحدث عن مجند يساري يتعرف الاشتراكية والعدالة الاجتماعية في السجن العسكري حسب روايتك حياة متدرج ماذا تحدثنا عن هذا اليوم بعد سنوات طويلة؟؟
• كتبت كثيرا عن حياتي صور متقطعة لكني لم أهتم بها وفي أي عملية جمع لها تنتج الرواية نفسها, لكني لم أحتفظ بالكثير مما كتبت, كان همي الوحيد هو التعبير عن عقيدتي السياسية ورأيي, وأسأت لنفسي بسبب عدم اهتمامي, ولم يكن بحسباني أن يأتي يوم ويسألني عنها أحد وتصبح مهمة ليطلع عليها الناس.
• تعرضت للسجن في مرحلة مبكرة وكتبت عنها فماهو أثر السجن على حياتك؟؟
•• كان للسجن عظيم الأثر في حياتي, نعم كنت فلاحا ابن فلاح وظروفي قاسية وأعيش في البرية جدا لكن معنوياتي جيدة, أما في السجن فقد أذلوني وحطموا معنوياتي خاصة أثناء التحقيق في الأمور السياسية التي سجنت بسببها في بداية الخمسينات.
• مع هذه الغصة بسبب السجن أقترح عليك أن ننتقل للحديث عن الحب, فهل صنع الحب ذاكرة ابراهيم جديد خاصة وأنك تقارب في وصفك طريقة حنا مينة؟؟
•• التزمت الصدق تجاه عاطفتي وملتزم باعترافي بارتباطي بحبي وكان ذلك فيه شيء من البساطة ولم أفكر في أن أتحول إلى كاتب, شغلني الصدق فحسب, ولم يكن يعنيني حنا مينة أو غيره, لكنه كان كاتب معروف وعدت وقرأته بعدها قبل أن أتعرف به.
• ذلك المونولوج الداخلي الذي مارسته مع نفسك في لحظات استقبال النكسة, نكسة حزيران, بين رفض وقبول وأسئلة كبرى, وحالة من الإحباط ينتصر عليها بطل قصتك وحده, ومن خلال حواره مع ذاته, هل تحدثنا عنه؟
•• من لحظة انتهاء المعركة, وأحداثها مازالت تتكرر في ذاكرتي, لأنها كانت بالنسبة لي صورة حزينة ومأساوية, ولم أعرف سبب التباين الذي سمح لاسرائيل أن تنتصر علينا, عندنا جيش وعندهم جيش وعندنا أسلحة وعندهم أسلحة, لكن نحن لم نكن مستعدين للحرب, بل لمظاهر الحرب فقط, لقد كانت تلك المرحلة أعلى عتبات الألم.
• كيف تقيم دور العائلة بحياتك وإلى أي حد كانت إيجابية في مسيرتك؟
•• كنت مندمجا بشكل طبيعي مع العائلة وبكل البساطة المتاحة لاستمرار الحياة, نعيش رغم الظروف, حرب أو سلم, نعيش بهدوء فيما بيننا.
• هل أثرت بك البيئة, وأنت من ريف الساحل السوري بهمومه وتضاريسه وآلامه, خاصة وأن هذه البيئة حاضرة بقوة في الروايتين؟
•• أثر البيئة كان كبيرا لحد ما فالطبيعة جميلة والقيود قليلة, كنا أحرار إلى حد كبير, لكن الهزيمة أو نكسة حزيران فتحت أبواب الاستكشاف والأسئلة الكبرى وهذا جزء من واقع عايشته ضمن تلك البيئة.
• هل ستتابع مع الكتابة؟
•• في لحظات اليأس ومع لعنة الفقر غادرت أقلامي وقرطاسيتي واتجهت للتجارة وفشلت بها لأن وجداني منعني من اتقان العمل التجاري وتجربتي مع السياسة لم تقنعني أيضا حيث دخلت خلية سياسية ذاك الوقت وغادرتها لأنها كانت خاصة وليست للمصلحة العامة, هذا بالاضافة إلى أن عملي في الكتابة لم يلق التشجيع بل تمت محاربته, فهناك أناس لا يريدون تغيير المجتمعات واستنهاضها, واليوم وأنا في هذا السن ما عدت قادرا على الكتابة, ربما لو وجدت من يستمع لي ويكتب بالنيابة عني قد أفعلها, وعملية الانبعاث مجددا أثرت كثيرا على معنوياتي, أنا فعليا أشكر كل من ساعدني لأعود من جديد.
أخيراً
ابراهيم جديد في آخر رسالة لك سمعت صوت بناتك اللواتي أحببتهن بشدة وطبعا أمهن الرائعة التي ترسم وجه سورية الأبيض والأم التي تصلح أن تكون وطنا وأما لوطن, وسمعت منك ومنهن كلمة شكر, ولم أنقلها هنا ببساطة, كمثل بساطتك في الحب والوطنية والعطاء, لسبب بسيط جدا, وهو أني أنا التي يجب أن أشكرك لأنك رفعت من شأن وجداني بهذا التخاطر الوجداني بيننا, ومنحتني فرصة أن أدافع عن نفسي قبلك فربما لولا ظرف أو عدة ظروف كنت سأنتهي مع اليأس أيضا.
كلانا يا والدي صديقي وشريكي في الذاكرة كما أسميتك نستطعم الحب والوطن والظلم الذي لا يوازيه ظلم وأنت تكتب في زمن الأمية الفكرية..
وإني لن أنسى أن أتقدم لك بالتهنئة على حصولك على عضوية شرف في اتحاد الكتاب العرب مؤخرا وكل الشكر لكل المتعاونين في قيادة الاتحاد.
ابراهيم بركات جديد شكرا لك.