السائدة في العالم، فظهر الرقص التعبيري الذي رافق العرض المسرحي، وتطور هذا المفهوم إلى أن تحول إلى الرقص المعاصر بتأثير من وسائل الاتصالات حتى استقل عنه أيضاً وأصبح فناً مستقلاً.
من هنا نلحظ أن الرقص التعبيري هو جزء من الدراما الموسيقية، فهما لا ينفصلان عن بعضهما، وإذا كان الرقص بمفهومه الشعبي يقدم المتعة المجانية، ويثير العواطف والشهوات، فقد أصبح أداة تعبير مثالية تعبر عن المكنون الداخلي للإنسان، وبالعودة إلى تاريخ الرقص كمفهوم، فإنه يمتد إلى التاريخ القديم للمنطقة ابتداءً من الأساطير ومروراً بالرقصات الدينية وانتهاءً بما نشاهده في هذه الأيام، فاستخدم الراقص الإشارة دلالة عن الحديث بالأسلوب الجمالي، وحين عجز اللسان عن التعبير عما يجيش في الصدر، بدأت الأجساد تنطق لتعبر عما تريده، فأسكتت أساليب التعبير الأخرى، وانطلقت الأجساد حرة في الفضاء، تعبر عن رؤية العالم الداخلي للراقص، بكل تفصيلاته وانفعالاته، ورغباته، وهواجسه، وعلاقاته بالآخر الفرد والمجتمع، وما تريده الأجساد أن تفعله وتعبر عنه في أداء مختلف الحالات الشعورية والفكرية والنفسية كالفرح والغضب والخوف والترقب، بصيغ ودلالات متعددة، وتحول الجسد إلى مادة ثقافية لإنتاج صيغ حضارية جديدة، تتماشى مع الصيغ الحضارية الأخرى.
نشأت الدراما من التزاوج بين الكلمة الموزونة وبين الحركة الراقصة بوصفها يلحق القول بالفعل، وتمظهر الرقص في نوعين أساسيين، الرقص العادي بدافع المتعة، والرقص الدرامي الذي يشتمل الفعل فيه على فعل مسرحي له قصة، فالجسم يروي قصة خيالية أو واقعية، والفعل الدرامي يتألف من الرقص والموسيقى، والرقص الدرامي يقترب من المسرحية عندما يقوم الراقص برقصة يمثل شخصية ما، وهذا الفعل ينطوي على فعل ذي عقدة وليس مجرد فعل حركة جسدية، إنه الشخص الذي يرقص ابتهاجاً أو حزناً لحالة ما، لكن إذا كان الرقص معبراً، فهو شديد الاقتراب من الدراما المسرحية لأنه يحاكي قصة وقعت أحداثها منذ زمن والآن يستعيدها كذكرى، فالممثل يجد بديلاً فوق متعته بالحركة الإيقاعية من التعبير بالفعل الإيمائي عن شيء ما وقع له أو تخيله، واتخذ شخصية في ما بعد، يكون قد أدى مشهداً مسرحياً متكاملاً.
الفنانة يارا عيد «مصممة وراقصة» من الفنانات المميزات في مجال الرقص ليس في سورية فحسب، وإنما في الوطن العربي، مارست الرقص والعزف على آلة الكمان وأنشطة فنية أخرى وهي لم تتجاوز السابعة من عمرها عندما انتسبت إلى مدرسة الباليه، ولم تعرف يوماً أو تخطط يوماً بأنها ستكون أهم راقصة ومصممة، تقول «انتسبت إلى مدرسة الباليه عام 1993، ولم أفكر في المستقبل، وكيف يمكن لطفلة في مثل هذا العمر أن تفكر بالمستقبل، بل كان الأمر مجرد نشاط وهواية تلبية لاحتياجات الطفولة مثل الرقص والموسيقا والرسم والرياضة..» وعندما كان صلحي الوادي مديراً للمدرسة يتابع امتحانات الأطفال الصغار، كان يردد دائماً «أرى يارا راقصة وليست عازفة»، ورغم ذلك لم تهتم يارا لكلام المدير، بل تمارس هوايتها بحرية وطفولة منطلقة من دون أن تنحاز إلى كلام مديرها الذي يدغدغ عواطف الغرور لدى الأطفال.
اقتنعت يارا في الرابعة عشرة من عمرها بأنها لا تستطيع الاستقرار أو العيش من دون الرقص، عندها تخلت عن العزف على آلة الكمان «اقتنعت تماماً بأن أكون راقصة، ولم يكن الرقص محبذاً في مجتمعنا آنذاك، بل كان يُنظر إليه نظرة مخجلة في بعض الأوساط»، وتشبه الرقص بالقدر الذي يتلبس صاحبه «كما تلبسني الاسم كالقدر، هكذا أصبحنا أنا والرقص شخصاً واحداً يدعى يارا، لكل في اسمه نصيب، وصار الرقص يختار لي المسار الصحيح عندما أبحث عن حل ما».
من هنا ناقشت يارا الأمر بأن لكل فن مبشرين كما في الأديان، وكان من المفترض أن تقتنع وتكون مبشرة في فن الرقص في سورية وخاصة أنه فن في بداياته الأولى لذلك «كان يجب أن نؤسس للرقص، ونجعله فناً ثقافياً وفكرياً بين الناس، لنا وللأجيال القادمة، لكي يترحموا علينا بعد أحفادنا» وكأنها مقتنعة بأن التبشير بالفن مستمر لأجيال عدة.
بعد أن تخرجت من مدرسة الباليه بدرجة امتياز، انتسبت إلى المعهد العالي للفنون المسرحية/ قسم الرقص التعبيري، فزاوجت ما تعلمته في الحياة العملية بالقواعد والأسس الأكاديمية أثناء الدراسة، وانطلقت بهذه الروح إلى خشبات المسارح لتكون الراقصة الأولى في فرقة إنانا للمسرح الراقص، وتصبح مدرّسة في مدرسة الباليه وقسم الرقص التعبيري، وأستاذة الحركة في قسم التمثيل، هنا تميز يارا ما بين الحركة الراقصة في التمثيل والحركة الراقصة في الرقص تقول إن «الحركة بالنسبة للممثل نسميه جيست «gist» حركي أكثر مما هو حركة راقصة، الممثل لديه لغة حركية، ولغات أخرى منطوقة وغير منطوقة، وللمناسبة الحركة تجذب الطفل إليه أكثر من اللغة المنطوقة، فالممثل لا يمكن أن يقف على الخشبة ويستمر في الروي «الحكاية»، لأن المتلقي يصيبه الملل، لذلك يتطلب منه حركة ليغني الجانب المنطوق يترافقان أو يكملان معاً كون الشعب العربي، شعب حركي وحيوي وليس بارداً، وبالتالي يوصل الممثل أفكاره عبر مجموعة لغات منها الحركة إلى الجمهور، وهذا يغني الذاكرة البصرية لدى المتلقي، فالممثل يوصل فكرة جمالية معينة عبر أدواته «جسده»، وأعتقد أن المنطوق قد يفشل إيصاله إلى المتلقي في حال عدم تنوع لغات الخشبة، وبالضرورة يستخدم الممثل الحركة ليست بالضرورة راقصة، لكن علينا نحن أن نصقلها له لتكون موظفة فنياً للممثل».
في حين أن الراقص ليس لديه سوى جسمه وأدواته التعبيرية «حركته، عضلاته، انحناءاته، إيماءاته، وحركته الراقصة»، وبالتالي إن أراد أن يوصل فكرة ما، فيستخدم جسمه فقط من دون الكلام، ولكل حركة فكرة وروح وزمن يعبر عنها الراقص بجسمه»، وكمصممة للرقص تقول: «أخترع قصة حركية، وأترجمها إلى حركة راقصة ضمن مرجعية الراقص والجمهور، وأحاول إيصالها إلى المتلقي، المثقف، وإن كانت الحركة لا تحمل قيماً ثقافية فتكون سطحية لا معنى لها، لذلك فالفكر «ليست الفكرة» ضروري للراقص، لأنه يحمل موروثاً ثقافياً وحضارياً، وعليه أن يقتنع بالفكرة ويتبناها، فهي قصة افتراضية صغيرة تمس الجمهور، وإن صدّقه الراقص، فستحفر في روح المتلقي، وإن كان الرقص استعراضياً، فسينقطع الخيط الرفيع ما بين الحركات الحاملة لبذور الثقافة الأصيلة والحركات الاستعراضية التي لا تحمل سوى الاستعراض، بمعنى المفرّغ من كل شيء».
لا يمكن للجسد أن يؤدي حركة إن لم يكن قابلاً للمرونة والليونة عبر تدريبات مكثفة ويومية، وخاصة بالنسبة للممثل في البانتومايم كي يسيطر على أجزاء من جسمه وأدواته، وإن تطلب الأمر يستدعي أي عضلة فيما يخص الراقص والممثل، وإذا كانت الحركات غير مبنية على الليونة والمرونة، فسيسقط في المربع «بمعنى التيبيس» وهذا مرفوض بالنسبة للراقص، وفي الوقت نفسه متعب وصعب جداً أكثر من المرونة والليونة التي تمنح الحيوية والنشاط للراقص.
تحدثت يارا عن ردود أفعال الجمهور على عروضها الراقصة، ميّزت الطبائع الثقافية والجغرافية للجمهور، فرأت أن الجمهور في البلاد العربية، جمهور حماسي «يحب الانفعال، وتحركه الدبكة الشعبية أكثر من الحركات الرومانسية الهادئة، لذلك كان يصفق ويتحمس وينفعل ويحب الفرقة والراقصين كوننا نلبي حاجاتهم الانفعالية والحماسية ونخرجهم عن هيبتهم الوقورة، وخروجها في أي مناسبة ولحظة»، في حين أن الجمهور في البلدان الأوروبية، جمهور بارد، والبرودة طبيعة إنسانية مستمدة من الطبيعة الجغرافية للمنطقة، وانعكاس على حياة الإنسان، فكان «يندهش وينصدم برقصاتنا أكثر من الجمهور العربي، يكتسب منا الحرارة والعواطف المفتقدة بالنسبة لهم، وقد لا يهمهم التكنيك الذي نهتم به كثيراً لأنهم تجاوزوه، لذلك يناقشون حرفية الراقص وثقافته في الحركة، لكن عندنا ننعته بأنه حلو أو بشع فقط، ليس لديهم روح تحرك المتفرج، وفي النهاية لم يمدوا الراقص بحرارتهم ولا بعاطفتهم، ويخرجون من الصالة فرحين فقط».
الراقص يمتلك طاقة وحرارة عالية، لذلك يجب أن نهتم به أكثر إلا أن ما ينقصنا روح التكنيك لأننا في العقود الأولى لهذا الفن الراقص، وهذا يتطلب تراكمية تدريجية في الكم من العروض الراقصة.
«بالنسبة لي، احتفظت في ذاكرتي البصرية والذهنية بالكثير من التجارب التي مارستها وتعلمتها منذ تسعة عشر عاماً، بغض النظر عن التجارب إن كانت ناجحة أو فاشلة، كما أنني شاركت في العديد من ورشات العمل، لكن نحن مقصرين بحق التراث واحترامه، نذهب باتجاه التقليد ومحاكاة التجارب الغربية، يجب أن نهتم بتراثنا القابل للتطور لا أن نمحيه من ذاكرتنا الثقافية، وأية عملية دمج بين التراث والحداثة هي ضرورة لصالح هوية الراقص، لأن هذا الفن حديث في ثقافتنا البصرية، في حين أن الغرب أنجز مشروعه، وقطع أشواطاً فيه منذ أكثر من 400 سنة، وطوره واستفاد من تراثه وتراث الشعوب الأخرى، لذلك يلزمنا سنوات طويلة، وحتى لا نتراجع يجب علينا المحافظة على الموشحات والدبكة ورقص السماح والفنون الشعبية وعملية الدمج أو التناسج».
في جوابها حول كيفية الاستفادة من الفنون الشعبية وتوظيفها في فن الرقص تقول: «عملية الدمج تتطلب جهداً من الراقص، لكنها ضرورية لتطوير التكنيك للوصول إلى مستوى عال» مقارنة بالمستويات في البلاد العربية العريقة في هذا الفن، «نرتقي بمستوى ذائقة الجمهور، عندما أقدم شهرزاد على الجمهور أن يعرف أن هذه شهرزاد من التراث الشعبي، وهذا بالعودة إلى سماع الموشحات والأغاني التراثية على سبيل المثال، عندما نسمع أغاني فيروز هذا يغني العاطفة عند الراقص، وعندما نشم رائحة الكولونيا وهذا أيضاً يرتبط بالراقص، ويشعره بشيء ما وخاصة أثناء خروجه إلى المسرح، كل هذا يغني الراقص لأنه ينتمي إلى تراث وحضارة عريقة، وينقلها إلى المتلقي عبر رقصاته، وهذا ما يمنح هوية الراقص والرقص مع الأوزان الموسيقية، بالنسبة لي آخذ روح الشرق من كل شيء ربما من أرصفة الشوارع، وأخرجها على المسارح العالمية من خلال الرقص».
وعن أنواع الرقص الحديث في العالم تقول «إن هناك رقصات كثيرة، مثلاً بريك دانس «break dance»، خرج من شوارع أمريكا وأنفاقها، وبدأ ينتشر في العالم، مارسه الزنوج بكثرة، إلا أنه ليس له صفة الأكاديمية، وهو نوع صعب الأداء، لكن جمهوره من الصغار والشباب، وهذا النوع من الرقص يعود إلى الإرهاق النفسي للمجتمع، وفي الوقت نفسه يحتاج هذا المجتمع إلى التسلية وتقطيع الوقت، أعتقد أن المجتمع منهمك نفسياً واجتماعياً، ويريد أن يعبر عن نفسه بفرح والخروج من منطقه الرمادي، وبالمناسبة حول الرمادي، سنقدم في يوم الرقص العالمي 29/ 4 عرضاً راقصاً على دار الأوبرا في 3/ 5، بالنسبة لمشاركتي فيه أنا راقصة ومصممة، فقدمت فكرة بعنوان «رمادي» تتحدث عن حالة الروتين الممل التي يعيشها المرء في مجتمعه، وهي حالة الملل، وعندما ينتقل إلى حالة أخرى يجدها أيضاً حالة الملل، لكن عملية الانتقال ما بين الحالة والأخرى هو التغيير، قدمت على هذه الحالة «التغيير» فكرة الرقص، وهناك العديد من فقرات الرقص الذي يكون بعنوان «وجوه وعظام».