ومن ثم نرى أن استعادة الحلم بالكرامة الإنسانية يخرج من عباءة المواطنة التي تنظر إلى المواطنين بوصفهم متساوين بالحقوق والواجبات؛ وشركاء في عملية التنمية الشاملة؛ أي إنهم ليسوا رعايا ولا عبيداً متفاوتين في الدرجات والمراتب... ما يبعد المجتمع عن ظواهر الشذوذ والانحراف؛ والعنف والإرهاب، والقهر والظلم... ثم إن المواطنة تلبي الحس الفطري بالانتماء إلى الوطن بوصفه الولاء الأكبر، و إن ولد المرء في مكان ما، ونشأ فيه أو في مكان آخر.... ولعل المواطنة الموصوفة آنفاً تمنع العقل النظري القلق من أن يسقط في جدل عقيم بينه وبين الولاء الأصغر الذي يتمثل بالعقيدة والجنس، والفئة والعشيرة والقبيلة، والطائفية والمذهبية. فالعلاقة بين الولاء الأكبر والأصغر ـ وفق صيغة المواطنة السابقة ـ علاقة ذاتية موضوعية؛ معرفية وجودية تستند إلى الفعل الصادق، والممارسة الإنسانية الراقية المنزهة عن الكذب والنفاق، والتنظير الأجوف والعصابي، أي إن الوعي بالمواطنة ـ في صميم هذا التصور الراقي ـ يؤصل روح المبادرة الخلاَّقة للحفاظ على موارد الوطن وتنميتها والارتقاء بها؛ في الوقت الذي يصبح الفرد فيه حارساً أميناً للنسيج الاجتماعي المتجانس الذي تأسس وفق مقولات العيش الواحد؛ أو المشترك على مدى قرون وقرون، دون أن يغرق في مستنقع الطحالب القاتلة.
ومن ثم فحينما يخلق المجتمع بنيته الاجتماعية المتجانسة يكون قادراً على قبول التغيرات الثقافية التي تطرأ عليه مرة بعد مرة؛ وكذلك هي أنماط السلوك والعادات والتقاليد؛ وأنظمة السياسة والإدارة. ولهذا تحدوه الرغبة الجامحة إلى تشكيل هيئات اجتماعية وثقافية ومهنية تستجيب لحاجات جماعة دون جماعة؛ وهي حاجات لا تنفصل عن الالتزام بقضايا الوطن وهمومه ما دامت مرتبطة بوعي المواطنة، وبناء دولة المواطنة. وبناء عليه فإن أي منظمة مجتمع مدني تنبثق تلبية لحاجة جماعة ما في إطار الانتماء الوطني تصبح جزءاً من مفهوم التنمية والتقدم المستقبلي، كونها جزءاً من عقد اجتماعي أكبر. ثم إن أي منظمة اجتماعية أو ثقافية أو مهنية أو إدارية أو صناعية لا يمكنها أن تتخلى عن الوعي المعرفي العملي؛ بوصفه وعياً يلبي تطلعاتها على كل صعيد؛ ويجعلها تواكب الحياة وتطوراتها؛ ويدعوها دائماً وأبداً إلى التكيف مع القوانين العامة والمتجددة، كون أي قانون ناظم يمثل روح المجتمع وعقله في مرحلة زمنية ما، ومن ثم تزداد العلاقة الموضوعية الصادقة بين المواطن ووطنه لأن العلاقة القانونية بينهما غدت علاقة دستورية اجتماعية معرفية إنسانية.
إن الوعي بسيرورة تكوين المجتمعات البشرية تؤكد على الدوام أنه لا يمكن لمؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية أن تمارس سلطاتها بأسلوب حضاري عصري عاقل وعادل ومحايد إن كانت هيئات المجتمع المدني بعيدة عن تشكيل الوعي بالمواطنة المستمدة من قيم العدالة والحرية والديمقراطية ذات المرجعية القانونية؛ والخلقية الناظمة للمبادئ الإنسانية وتعاليم الديانات السماوية. فإذا تجانفت عن ذلك كله نتج ـ بالضرورة ـ تشوهات اجتماعية، وانحرافات فكرية؛ ونزوات نفسية قادرة على قلب بناء الدولة رأساً على عقب، وسقوطه على رؤوس الجميع.
ولذلك كله فإننا نؤمن إيماناً لا يشوبه شك بأن المواطنة بهذه المعايير والتصورات تشكل الوعي المستمر ببناء الدولة القائم على مفاهيم التعدد والتنوع بوصفها مفاهيم للمنافسة والارتقاء، والتكامل والتفاعل، لا للاقتتال والتحارب، سواء تمثلت بأحزاب سياسية أم حركات فكرية، أم شرائح اجتماعية أم تيارات اقتصادية وأدبية وعلمية وفنية. وأياً كان ولاء هذه أو تلك، ومهما كانت حاجاتها ملحة، وهمومها الاجتماعية والدينية كبيرة ستظل جزءاً من كينونة البناء الوطني.. أي إنها لن تلجأ إلى الإلغاء والإقصاء؛ أو التهميش والإبعاد، أو القهر والظلم؛ ولن ترتد إلى التخلف والعجز.. ولن تصاب بالضعف والفقر.. والتردد والقلق والاضطراب والخوف. لقد أدركت بوعيها المعرفي الموضوعي العلمي أن حاجاتها وقضاياها وهمومها أمور وجودية وضرورية بيد أنها لا تنهض إلا بتكامل حقيقي وفعّال مع بناء دولة المواطنة التي تسعى دائماً وأبداً إلى إرساء العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية التي تجعل الوطن منيعاً وعزيزاً وسيداً.