لان ماحدث يعتبر بمثابة العاصفة في وجه الوحدة الاوروبية المتعثرة ولا سيما اذا علمنا ان الرفض الفرنسي والهولندي جاء بناء على حسابات شرائح هامة وواسعة من الطبقات التجارية والرأسمالية الوسطى ومادونها, وهي التي بالطبع تشكل الشرائح الاكبر لحماية مصالحها ومستقبلها وبالتالي للاعراب عن رفضها للبطالة التي ستشملها في حال تم استكمال قيام الاتحاد الاوروبي الذي سيسمح وفق بنوده الجديدة بانتقال مصانع فرنسية واوروبية اخرى بأكملها الى الدول الاوروبية الشرقية التي انضمت حديثا الى الاتحاد الاوروبي ذات العمالة الرخيصة, في حين ان الاشتراكيين في فرنسا وغيرهم قلة في الدول الاوروبية صاحبة التاريخ العريق في الرأسمالية العالمية يرون ان اوروبا لن تتمكن من تطوير نفسها وتحقيق نموذجها الاجتماعي الخاص في مواجهة القوة الامريكية والمنافسة الاقتصادية الاسيوية الا حين تصبح موحدة وفاعلة ,ومن هنا ينادي هؤلاء بوجوب تحويل الاتحاد الاوروبي الى نسخة مماثلة عن قانون او دستور الولايات المتحدة التي بدورها لا تريد بالحقيقة ان ترى اي قوة اوروبية اقتصادية وسياسية تقف في طريقها نحو المال وفرض هيمنتها على مقدرات العالم.
ولهذا نستطيع القول ان اوروبا جراء ما حصل فيها من تطورات متلاحقة على اثر اللافرنسية والهولندية ستشهد فصلا جديدا دون شك من ازمات تبدأ من تباطؤ عملية المفاوضات الاوروبية المقررة لبحث منح العضوية لكل من تركيا وبلغاريا ورومانيا واوكرانيا الى تراجع الاداء في مؤسسات الاتحادية الاوروبية الذي بدأ مع تراجع العملة الاوروبية اليورو .
لكن اوساط كثيرة من الاوروبيين يذهبون الى أبعد من هذا اذ يعتبرون ان الاتحاد الاوروبي بوضعه الحالي على اثر نتائج الاستفتاء على دستور الاتحاد الجديد هو المسؤول عن فشل واخفاق قادة اوروبيين منتخبين لاعطائهم الاولوية للاقتصاد القومي لدولهم وللحاجات الاجتماعية القومية لهم هذا ما يدركه الرئيس الفرنسي جاك شيراك كما تقول اوساط فرنسية لانه كان يطالب بها عندما كان رئيسا للوزراء في عهد الرئيسين الاميركي نيكسون والسوفييتي بريجينيف وهو لذلك اي الرئيس شيراك يدين بفوزه في منصب رئاسة الجمهورية الفرنسية لحالة الانقسام التي وقعت داخل اليسار الفرنسي والتي سمحت وقتها لمرشح اليمين المتطرف لوبان بإخراج مرشح الاشتراكيين الفرنسيين عن سكة النجاح والفوز وهذا ما ألزم الفرنسيين بالتصويت لشيراك وبالتالي فإنه اي الرئيس شيراك غير قادر على نسيان ذلك والقفز فوق هذه الحقائق لمصلحة انجرافه لقيام الاتحاد الاوروبي المأمول .
كذلك تبعات اللافرنسية والهولندية خيمت بدورها على بريطانيا التي تعلم ان رئيس وزرائها طوني بلير لم يفز في الانتخابات الاخيرة إلا بنسبة قليلة من الاصوات حين فقد حزبه خلالها عددا من المقاعد وهذا ما يؤكد عدم اندفاعه وحماسه الشديدين لخوض معركة جديدة لقيام الاتحاد الاوروبي بشكله الجديد والحال كذلك في ايطاليا التي تلقى رئيس حكومتها الائتلافية بيرلوسكوني هزيمة في الانتخابات المحلية الاخيرة ما جعله ينكفئ على قضايا بلاده ومستقبله السياسي دون غيرها والصورة هذه نراها ايضا في ألمانيا في اطار ما خلفته اللافرنسية والهولندية ضد دستور الاتحاد الاوروبي حيث تعرض المستشار شرويدر وحزبه الديمقراطي الاشتراكي للمهانة بعد الخسارة التي مني بها في المقاطعة الرئيسية له والتي يعتبر نفسه بها قويا في ألمانيا مقاطعة ويستفاليا ما سيعرضه لازمة كبيرة من الصعب عليه تجاوزها في الانتخابات القادمة في ايلول من العام الحالي.
والحال السوداوية هذه امتدت الى صفوف الاوروبيين كمواطنين مؤيدين لقيام الاتحاد فأصبحوا على قناعة بأن قادتهم السياسيين عاجزون عن مجابهة تحديات عولمة الاتحاد الاوروبي وهي بنظرهم اي بنظر هؤلاء الاوروبيين امور لا يمكن تجاوزها كالبطالة والعجز الثقافي والسياسي ووجود المهاجرين في دولهم اضافة الى قضايا اجتماعية اخرى يرون انها ستولد بوادر كوارث في بلادهم هم في غنى عنها .
هذا الوضع الاوروبي الجديد في ملامحه عاجز على ما يبدو عن التحرك من جديد للملمة جراحه ومعالجة النزيف الذي اصابه جراء الرفض الذي انطلق من فرنسا وانتشر في الجسم الاوروبي ولاسيما اذا ما علمنا ان مثل هذا الوضع تباركه من قريب او من بعيد الولايات المتحدة او لنكن اكثر دقة ادارة الرئيس بوش نفسها حيث لا ننسى ان هدف واستراتيجية الحزب الديمقراطي الامريكي اضافة الى الحزب الجمهوري ان تبقى اوروبا مجزأة منقسمة على نفسها لان ذلك سيؤدي الى تسهيل هيمنة الولايات المتحدة على مقدرات ومصير العالم .
والامريكيون من اليوم هم اشد الاطراف فرحا ما آلت اليه الصورة القائمة عند الاوروبيين لبناء اتحادهم المنشود اذ ان ادارة الرئيس بوش لن تنسى مواقف عدد من القادة الاوروبيين الذين عملوا على استقلالية القرار الاوروبي وخلق قطب اوروبي فاعل في عالم يهيمن عليه القرار الامريكي المتفرد .
كما ان ادارة الرئيس بوش لن تنسى مواقف اولئك حين عارضوا الحرب على العراق وجاهروا بمطالبته بضرورة تقديم من لفقوا وسوقوا التبريرات للحرب الظالمة التي كشفت الاحداث والحقائق بطلانها ولهذا فإن هذه الادارة الامريكية وبموجب تلك المؤشرات هي الاكثر ابتهاجا للحال الاوروبية هذه وهي لن تدخر جهدا بغية ايصال تلك الحال الاوروبية الى المزيد من الانقسامات والهزائم كي تبقى اوروبا بدون فائدة وفي حالة شيخوخة مستمرة لمصلحة الانفراد الامريكي بمقدرات العالم .