فمن هذه المفردة ينطلق الكاتب ليصوغ لنا حكاية كوميدية مشوقة كانت مادة لعرض التخرج من المعهد العالي للفنون المسرحية للعام الدراسي 2004-2005 بإشراف الفنان فايز قزق .
تقوم المسرحية المكتوبة بين عامي 1594 و1596 على شبكة عنكبوتية من قصص الحب المتأزمة والتي تزداد تأزماً في مرحلة متقدمة من المسرحية عندما يتدخل عامل خارجي ليحيد العواطف عن خط سيرها ويتجه بها باتجاهات أخرى, مما يزيد في أزمات الشخصيات وعذاباتها دون الدخول في متاهات التراجيديا بطبيعة الحال, باعتبار أن هذا النص يشكل أحد أبرز المعالم في نصوص شكسبير الكوميدية.. وعاطفة الحب في هذه المسرحية تبدو في بعض مراحلها وتقلباتها قريبة من المعنى المباشر للكلمة, إلا أنها في واقع الأمر تغوص في النفس الإنسانية وتظهرها على حقيقتها من حيث استعدادها للتأثر بأي عامل خارجي طارئ قد يحرفها عن طريقها السائرة فيه باتجاهات مغايرة, لكنها سرعان ما تعود إلى صوابها بعد زوال هذا التأثير, الأمر الذي يشير إلى هشاشتها من جهة وإصرارها على المتابعة والوصول إلى أهدافها رغم المصاعب الجمة من جهة أخرى.. وغالباً ما صوِّرَت عاطفة الحب في هذه المسرحية في أقصى حالاتها وأعلى درجاتها, فالحب هنا هو التضحية بالنفس والأهل والتقاليد, وهو بنفس الوقت سعي نحو تحقيق الذات عبر عملية تحدٍ لكل ما من شأنه أن يعيق المحبين عن تحقيق أهدافهم, كما لا تخلو عاطفة الحب هنا من لمسة أنانية, يفضِّل فيها المحب الاستئثار بمحبوبه حتى لو لم يكن الأخير راغباً به, وهو الأمر الذي يشكل الوجه الآخر لمفهوم الحب هنا وهو المفهوم الذي يتشظى إلى عدة حالات تدور جميعها في فلكه ولا تخرج عن نطاقه, وعلى هذا الأساس لم يكن من المستغرب أن حالة الكراهية المناقضة لحالة الحب قُدِّمت أيضاً بحدودها القصوى, لكنها بقيت ضمن إطار من البراءة التي غلفت العواطف والمشاعر ونأت بها عن كل ما يمكن أن يدنسها, ولنا هنا أن نذكر أن الكراهية التي طبعت عواطف بعض الشخصيات بشكل جزئي وإن كانت غير قابلة للمراجعة أو النقاش إلا بفعل التأثير الخارجي إلا أنها بقيت ضمن دائرة التسامح الذي يتجلى في نهاية المسرحية .
أحداث المسرحية لا تقتصر مساراتها على مستوى واحد, إذ يمكن إيجاد مستويين أساسيين أولهما عالم الشخصيات الإنسانية وثانيهما عالم الجن الذي يتداخل مع العالم الأول ويؤثر فيه دون أن يكون العكس صحيحاً, وينقسم كل عالم إلى أكثر من مستوى أو مجموعة, ففي عالم الجن هناك مجموعتان, ولكل مجموعة قائدها الذي تأتمر بأمره, ويضم عالم الشخصيات الإنسانية أكثر من مستوى : شخصيات العشاق-الدوق وزوجته-الفرقة المسرحية, وبتداخل هذين العالمين بمستوياتهما المتعددة تنشأ المفارقات والأحداث التي تعتمد المسرحية عليها في تتابعها وتشعبها, وصولاً إلى النهاية السعيدة التي تطبع عادة المسرحيات الكوميدية.. ونشير هنا إلى أن هيمنة مستوى العشاق كانت واضحة على بقية المستويات الأخرى إلى درجة يمكننا القول فيها إن هذا المستوى هو الأهم, وخاصة بتأثره بأجواء العالم الآخر عالم الجن الذي تدخل وتداخل مع هذا المستوى وأثر فيه, ومن ناحية أخرى تراوحت أهمية مستوى الفرقة المسرحية عند إضفاء جو لطيف على العمل ككل سواء في مشاهد التدريب على العرض المسرحي الذي ستقدمه الفرقة للدوق أو أثناء العرض ذاته.. وبطبيعة الحال فإن هذا التعدد في المستويات والعوالم أدى إلى إثراء هذه المسرحية وجعلها هدفاً دائماً للمخرجين, بدليل أن هذه ليست هي التجربة الأولى لتقديمها كعرض تخرج من المعهد العالي للفنون المسرحية .
أثناء العرض كان من الواضح ذاك التناغم بين الرؤية الإخراجية من جهة, والعناصر سابقة الذكر من جهة ثانية, فقد أدى غنى المسرحية بالشخصيات وتواتر الأحداث وتقلباتها وتعدد المستويات والعوالم إلى صنع عرض مسرحي سريع الإيقاع يتمتع بجمالية عالية استمدها من جمالية المكان الذي تم تقديم العرض فيه (حديقة تشرين) فقد تم استغلال المكان بشكل يتناسب مع معطيات المكان في النص في معظم مراحله, فاكتسب العرض بذلك مصداقية أكبر وشكلاً أجمل.. والواقع أن تسارع إيقاع العرض لم يكن منتظماً, فقد تباطأ في أكثر من مفصل من مفاصله, لكن سرعان ما كانت تأتي دفعة جديدة من الأحداث والمشاهد لتشد هذا الإيقاع من جديد .
أهم ما ميز المكان الذي تم تقديم العمل فيه وجود بحيرة توسطته وشغلت أكثر من نصفه, وكانت المشاهد تدور حول البحيرة وفيها, وهنا يمكننا أن نذكر أن المبالغة في استخدام البحيرة بإسقاط معظم الشخصيات فيها بشكل مفتعل في العديد من الحالات وعلى مدى زمن العرض قد أفقد هذا الاستخدام إبهاره ودهشته بحيث أصبح هدفاً بحد ذاته, ولم يساعد اللجوء إلى هذا الاستخدام للبحيرة في دعم الشحنة الكوميدية في المسرحية بشكل ملموس, والسبب يكمن في أن المسرحية بأحداثها وشخصياتها على صعيد النص, وجودة أداء ممثليها وتفانيهم ومهارة إدارتهم من قبل المخرج على صعيد العرض كان كفيلاً بتقديم وجبة كوميدية دسمة .
وتكاملاً مع طبيعة المكان كان للإضاءة دور بارز في هذا العمل تجلى في عملية تحديد انتماء المشهد المقدم إلى عالَمَي المسرحية, فلكل عالم عالمه وأجواؤه, كما أن لكل عالم أزياؤه التي ساهمت بدورها في تعزيز الجانب الجمالي للعرض, خاصة فيما يتعلق بأزياء عالم الجن, وعلى هذا الأساس أيضاً جاءت الموسيقا والحركات التعبيرية التي شكلت فواصل بين المشاهد والمؤثرات الصوتية المناسبة والمتوازية مع الأحداث في مفاصلها الأساسية وتحولاتها المتعددة .
أخيراً نذكر أن تقديم عروض التخرج من المعهد المسرحي في أي مكان خارج المسرح الدائري أمر في غاية الضرورة والأهمية والإيجابية, لأن عملية الدخول إلى ذاك المسرح أثناء العروض تشكل عاملاً منفراً للجمهور الذي يتم حشره على باب المسرح إلى ما قبل بداية العرض بدقائق قليلة ومن ثم تبدأ عملية التدافع للدخول في سرداب معتم لا بصيص ضوء فيه إلى أن يصل المشاهد إلى صالة العرض ليتفاجأ أنها شبه ممتلئة فما يكون منه إلا أن يتخذ له مكاناً على الأرض أو يقفل راجعاً إلى بيته مصمماً على عدم تكرار التجربة مرة أخرى .