وهم يكتبون بالنجاح أو الفشل. في حين لم يكن يفكر في بداياته إلا بالكتابة لنفسه. ويروي قائلا: عندما نشرت كتابي الأول عام 1932 ، طبعت منه ثلاثمائة نسخة وزعتها على أصدقائي، ما عدا مائة نسخة منها حملتها إلى مجلة نوسوتروس فنظر أحد مديري المجلة، وهو الفريدوبيانتشي، إلي مذعورا وقال: وهل تريدني أن أبيع كل هذه الكتب؟ فرد عليه بورخيس: لاطبعا. فرغم أني كتبتها، غير اني لست مجنونا. والحقيقة ان الصحفي الذي أجرى المقابلة، الكيس خ. زيسمان، الذي كان في ذلك الحين طالبا من البيرو يدرس في لندن، روى علي هامش تلك المقابلة ان بورخيس قد اقترح علي بيانتشي ان يدس نسخا من الكتاب في جيوب المعاطف التي يعلقها المحررون على المشاجب في مكاتبهم، عسى أن يتيح ذلك نشر بعض الملاحظات النقدية حوله, أثناء تفكيري بهذه الحادثة، تذكرت حادثة أخرى ربما تكون معروفة، وذلك حين التقت زوجة الكاتب الامريكي الشهير شير وود اندرسون مع الشاب وليم فوكنر وهو يكتب بقلم رصاص ويسند أوراقه على عربة قديمة. فسألته: ماذا تكتب؟ فرد عليها دون أن يرفع رأسه: رواية . ولم تستطع السيدة اندرسون إلا أن تهتف: رباه! . ومع ذلك، فقد بعث شير وود اندرسون بعد عدة أيام إلى الشاب فوكنر يقول إنه مستعد لتقديم روايته إلى ناشر، وشرطه الوحيد هو ألا يكون مضطرا لقراءتها. كان ذلك الكتاب هو Soldiers Pay، الذي نشر عام 1926 أي بعد ثلاث سنوات من نشر كتاب بورخيس الأول, وكان فوكنر قد نشر أربعة كتب أخرى قبل أن يصبح كاتبا معروفا، يوافق الناشرون على طبع كتبه دون مزيد من اللف والدوران. ولقد صرح فوكنر ذاته يوما انه بعد هذه الكتب الخمسة الأولى، وجد نفسه مضطرا لكتابة رواية إثارية، لأن الروايات السابقة لم تؤمن له من النقود ما يكفي لإطعام اسرته. وقد كان هذا الكتاب الاضطراري هو الحرم Sanctuary، والإشارة إلى الكتاب جديرة بالذكر، لأنها تظهر بجلاء الفكرة التي كان يحملها فوكنر عن رواية الإثارة.
لقد تذكرت هذه الاحداث عن بدايات عظماء الكتاب خلال حوار دام نحو أربع ساعات، أجريته مع رون شيبرد، أحد المحررين الأدبيين في مجلة تايم, والذي يعد دراسة حول الأدب الامريكي اللاتيني. ثمة أمران اثنان جعلاني أشعر بالرضا عن هذه المقابلة. الأمر الاول هو أن شيبرد لم يحدثني ولم يجعلني أتحدث إلا عن الأدب. وأثبت دون أي أثر للحذلقة أنه يعرف جيدا ما هو الأدب. والأمر الثاني هو أنه قرأ بتمعن شديد جميع كتبي، ودرسها جيدا، ليس كل كتاب منها على حدة وحسب، وانما كذلك في تسلسلها وفي مجموعها. كما أنه تجشم عناء قراءة عدة مقابلات أجريت معي كي يتفادى توجيه الاسئلة التي توجه إلي دائما. ولم تثر هذه النقطة الأخيرة اهتمامي كثيرا، ليس لأنها تتملق غروري وهو أمر لا يمكن، ولايجب استبعاده على أي حال عند الحديث مع أي كاتب، بما في ذلك أولئك الكتاب الذين يبدون متواضعين, وإنما لانها أتاحت لي أن أبين بشكل أفضل، ومن خلال تجربتي، مفاهيمي الشخصية عن مهنة الكتابة. فكل كاتب أثناء أي مقابلة معه ومن خلال ادنى هفوة يدرك إن كان من يقابله, قد قرأ الكتاب الذي يحدثه عنه. ومنذ هذه اللحظة، وربما دون أن ينتبه الاخر إلى ذلك، يضعه الكاتب في منزلة معيبة وينظر إليه باستخفاف. واحتفظ أنا بذكرى مرحة جدا عن صحفي اسباني شاب، أجرى معي حوارا مفصلا عن حياتي, وفي اعتقاده أنني مؤلف أغنية الفراشات الصفراء، التي كانت شائعة في ذلك الحين، دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن أن تلك الموسيقا مستوحاة من كتاب، وأنني أنا مؤلف ذلك الكتاب.
لم يوجه شيبرد إلي أي سؤال شخصي، ولم يستخدم الة تسجيل، وإنما كان يكتفي بين الحين والآخر بتسجيل بعض الملاحظات المقتضبة على دفتر مدرسي. ولم يبد اهتماما بالجوائز التي منحت لي سابقا أو الآن، ولم يحاول أن يعرف مني ما هو التزام الكاتب، ولا عدد النسخ التي بعتها من كتبي، ولا مبلغ الأموال التي جنيتها. لن أقدم الآن ملخصا لحوارنا، لأن كل ما قلناه أثناء الحوار هو ملك له الآن وليس لي. لكنني لم أستطع مقاومة اغراء الاشارة إلى الحدث كواقعة مشجعة في مجرى حياتي الخاصة المضطربة اليوم، حيث لا أكاد أعمل شيئا سوى الاجابة عدة مرات في اليوم على الأسئلة الدائمة ذاتها، والأسوأ أنها ذات الأسئلة التي تصبح علاقتها أقل يوما بعد يوم بمهنتي ككاتب. أما شيبرد، فقد كان يتحرك، بالبساطة التي يتنفس بها، دون أن يصطدم بأشد أسرار الإبداع الأدبي زخما. وعندما ودعني، تركني مضمخا بالحنين إلى ذلك الزمان الذي كانت فيه الحياة أكثر بساطة، وكان المرء يستمتع بلذة اضاعة ساعات وساعات للحديث في الأدب وحسب.
ومع ذلك، لم يرسخ شيء مما قلناه في ذهني كرسوخ عبارة بورخيس: الكتاب يفكرون الآن بالفشل أو النجاح . ولقد قلت هذا الكلام بطريقة أو بأخرى لعدد كبير من الكتاب الشباب الذين ألتقي بهم في هذا العالم. ولحسن الحظ اني لم أرهم جميعا يسعون إلى انهاء رواية كيفما اتفق ليقدموها في الموعد المحدد لمسابقة ما. ورأيتهم يسقطون في مهاوي القنوط بسبب نقد مضاد أو لرفض مخطوطاتهم في دار نشر . لقد سمعت ماريو بارغاس يوسا يقول يوما: في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب، فإنه يقرر إن كان سيصبح كاتبا جيدا أم كاتبا رديئا . ومع ذلك، فقد جاء إلى بيتي بمدينة مكسيكو بعد عدة سنوات من ذلك, شاب في الثالثة والعشرين من العمر، كان قد نشر روايته الأولى قبل ستة شهور، وكان يشعر بالنصر في تلك الليلة لأنه سلم لتوه مخطوط روايته الثانية إلي ناشر. أبديت له حيرتي لتسرعه وهو لايزال في بداية الطريق، فرد علي باستهتار لازلت أرغب في تذكره على أنه استهتار لا إرادي: أنت عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تكتب لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أما أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة، لأن قلة من الناس يقرأونني . عندئذ، وبايحاء مبهر، فهمت مغزى عبارة بارغاس يوسا: فذلك الشاب قرر سلفا أن يكون كاتبا رديئا، كما كان في الواقع، إلى أن حصل علي وظيفة جيدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلي إضاعة وقته في الكتابة. ومع ذلك، أفكر الآن بأن مصيره ربما كان قد تبدل لو أنه تعلم الحديث في الأدب قبل أن يتعلم الكتابة. فهناك هذه الأيام عبارة شائعة تقول: نريد قليلا من الأعمال وكثيرا من الأقوال . وهي عبارة مشحونة طبعا بخيانة سياسية عظمى, ولكنها صالحة للأدب أيضا.
لقد قلت منذ شهور عديدة لجومي غارسيا اكوست إن الشيء الوحيد الذي يفوق الموسيقي هو الحديث عن الموسيقي، وفي الليلة الماضية، كنت على وشك أن أقول الكلام ذاته عن الأدب. لكنني ترويت قليلا، فالواقع أن الشيء الوحيد الذي يفوق الحديث في الادب هو صناعة الأدب الجيد.
من كتاب كيف تكتب الرواية