لم تكن تلك التجربة الأولى بالنسبة إلي، فقد شرفت بإدارة ندوات مماثلة في معارض أخرى سابقة، وكانت الأمور في تلك التجارب السابقة تسير كالعادة في مثل هذا النوع من الندوات، يلقي أحد المبدعين على الناس تجربته الإبداعية سواء في الشعر أو الرواية أو القصة أو غير ذلك من الفنون الأدبية ثم يفسح المجال للأسئلة والمناقشات، وهي في الحقيقة تجربة مرهقة، ليس بسبب ما يبذل فيها من جهد، ولكن بسبب ما يسودها من روح التكلف والمجاملة، بالإضافة إلى طابعها الرسمي في مظهره وفي جوهره.
لكن هذه المرة استوقفتني ظاهرة رأيت أن من واجبي أن أسجلها، ففي الردهة الفسيحة المؤدية إلى المقهى الثقافي يوجد عدد غير قليل من المقاهي «كوفي شوب» التي تقدم القهوة والشاي والمشروبات الأخرى، بالإضافة إلى الوجبات الخفيفة. وعند خروجي عقب انتهاء فعاليات المقهى الثقافي، لفت انتباهي الازدحام الشديد والإقبال الكبير من الناس من مختلف الأعمار على تلك المقاهي، عندها راودتني أسئلة: في المقهى الثقافي معروف ما يتكلم فيه الناس، ترى ما الذي يتحدث فيه الناس في مقاهي الشاي والقهوة والساندويتشات داخل معرض الكتاب؟ من الذي أخذ من الآخر، هل الثقافة هي التي أخذت المقاهي ونسبتها إلى نفسها، أم أن المقاهي في الأصل ما وجدت إلا ليجلس فيها المثقفون ثم صارت مقصداً لمن يريد أن يتحدث في أي شيء؟ أم أن مجرد الحديث بين الناس في كل القضايا هو لون من ألوان الثقافة؟ وإذا كان الشاي والقهوة يقدمان في المقاهي الثقافية من دون مقابل، فما الذي جعل هؤلاء الناس يفضلون الجلوس في هذه المقاهي غير المجانية، أم أن الأمر لا علاقة له بما يشرب الناس ولكن بما يتحدثون فيه؟
جميعها أسئلة، وإن اختلفت في ظاهرها عن بعضها البعض، لكنها في جوهرها لا تحتمل إلا جواب واحد، يمكن إيجازه في أن المقهى الثقافي له برنامج محدد أو موضوع بعينه لا مجال للخروج عليه، وبالتالي فإن درجة الالتزام فيه أعلى وإحكام القيد فيه أشد، في حين أن مقاهي الشاي والقهوة تترك لروادها مساحة أكبر من الحرية، وكأن لسان حال الناس يقول ضعنا في المكان الذي نتكلم فيه على راحتنا من دون قيود حتى وإن دفعنا عن ذلك مقابل.
إذاً نحن في المقاهي الثقافية مكبلون ومحاصرون بموضوع واحد وفي زاوية واحدة وضمن إطار برنامج واحد وعلينا أن نكون انتقائيين في ما نتحدث وحتى في ما نرتديه، لكننا في المقاهي الأخرى أحرار نتنقل بحرية بين الموضوعات وفي كل القضايا. هذه النتيجة جعلتني أسأل لماذا لا تكون المقاهي التي تقام على هامش معارض الكتب والفنون حرة يستطيع فيها الناس تناول كل قضايا الثقافة والمعرفة من دون قيود في ظل تراجع أعداد رواد المقاهي الثقافية التقليدية يوماً تلو الآخر؟