هل حقاً أن حمى هذا الكتاب التي اجتاحت العالم هي مؤشر على عودة رومانسية إلى عالم الطفولة أم أنها عارض خطير من أعراض المراهقة الثقافية.
يبدو الأمر مثيراً للقلق أكثر من كونه نزعة رومانسية. إنه بلا ريب مراهقة ثقافية وصلت إلى حد مرضي. إن الناس في الولايات المتحدة الآن لا يقرؤون و كل ما يفعلونه هو التلصص على كتب أطفالهم. و تشير إحصائيات المركز القومي للفنون إلى أن نصف البالغين لن يقرؤوا أية رواية هذا العام. لا أحد سيقرأ و لقد تضاعف هذا التراجع ثلاث مرات خلال العقد الأخير. و رغم أن إحصائات و استطلاعات من هذا النوع أصبحت مألوفة في الفترة الأخيرة، إلا أن الأرقام تبقى مثيرة للصدمة. إنه موت القراءة في ثقافتنا، و ليست حمى هاري بوتر إلا من أعراضه و مقدماته.
فكيف إذن يحقق كتاب واحد مثل هاري بوتر ذلك الإنتشار غير المسبوق و كيف يصل عدد قرائه إلى مئات الملايين في عصر تتراجع فيه ثقافة القراءة؟ ربما إغراق العالم بموجة عارمة من الهيستيريا التسويقية لا يساعد في إنجاز أي فعل تأملي مستقل و فردي من النوع الذي تتطلبه العلاقة الجدية بالكتاب و تؤدي إليه. لقد أصبحت ثقافة القراءة محكومة بتلك الهيستيريا الجمعية. فمع صدور كل جزء من كتاب هاري بوتر يندفع القراء ليس فقط في حركة صاخبة من الحماس و الترقب، بل أيضاً في حركة جمعية تتلاشى فيها الفوارق الفردية بين القراء فيصبحون كائنات متشابهة. و بفضل تقنيات النشر الحديثة و وسائل الإعلان و التسويق يمكن لعدة ملايين من البشر شراء جزء من هاري بوتر في يوم واحد. هناك شيء مخيف حول هذا النمط من التزامن و الوحدة الجمعية. إنه شيء لا يمت بصلة إلى تلك المتعة الفريدة في تجربة قراءة رواية أو إلى تلك الفرصة النادرة التي تمنحها القراءة للخروج من علاقة التشابه مع العالم في تجربة حميمية، متفردة و خاصة. إنه شيء لا يمت بصلة أيضاً إلى تلك العلاقة التي تنشأ بين فردية القارئ و بين صوت الكاتب على مدى ساعات و التي تبحث عن فضاء خاص دون صور أو رموز إعلامية متداولة.
و دون قصد من رولينغ، أصبحت قراءة هاري بوتر تجربة تشابه في كثير من النواحي العلاقة مع وسائل الإعلام السائدة. إن تجربة القراءة هذه تتوقع من القارئ أن يتقبل دوره كمستهلك لمادة ثقافية تبث بكثافة دون أي تدخل للخصوصية الفردية في اختيارها أو تذوقها. و في غياب أي معيار أو حساسية تحدد أين و كيف نبحث عن ما نقرأه، ليس من المفاجئ أن يتجه معظم الناس الذين يريدون قراءة الأدب إلى العناوين القليلة المثبتة في قوائم الكتب الأكثر مبيعاً و التي ينكب الجميع على قراءتها و الحديث عنها. و في سياق الحديث عن تأثير آليات السوق في عادات و ثقافة القراءة، يشير الناقد كريس أندرسون إلى أن آليات التسويق و التوزيع الجديدة ستؤدي إلى كسر الاحتكارات الكبرى في عالم الكتاب. ربما كانت هذه رؤية متفائلة، لكن في الواقع ما زالت الرؤوس الكبرى هي التي تحكم عالم النشر و التوزيع. و مثل الكائن الخرافي الذي يخيف الطلاب في الجزء الثاني من كتاب رولينغ، يستولي هاري بوتر و عدد قليل من الكتب الأخرى على كامل إنتباه و طاقة القراء بحيث يتركهم مستنفذين غير قادرين على قراءة شيء آخر.
و في سياق تأثير آليات السوق و التوزيع على ثقافة القراءة، نشير إلى دراسة هامة أجراها آلان سورنسون في جامعة ستانفورد. تشير هذه الدراسة إلى أن نسبة 70% من مبيعات الكتب الأدبية عام 1994 تعود إلى خمسة مؤلفين فقط. و في الحقيقة ليس هناك ما يدعو إلى القول أن المشهد قد تغير. و كما يقول ألبرت غريكو الباحث في معهد أبحاث النشر: الناس الذين يقرؤون أدباً يتجهون دائماً إلى الأعمال المشهورة و التي تحتل غالباً قوائم الكتب الأكثر مبيعاً و التي تعود إلى مجموعة ثابتة و متكررة من المؤلفين. و هكذا فإننا نعيش المعادل الأدبي لظاهرة فقدان التعددية الحيوية.
إن مشهد أولئك الناس الذين يتجولون حاملين رواية من 800 صفحة يوحي أن ثقافة القراءة بخير في الولايات المتحدة. لكن المشهد يبدو في جوهره شبيهاً بغابة كثيفة لا تحتوي إلا نوعاً واحداً من الشجر. منذ أن إقتحم هاري بوتر حياتنا منذ عقد مضى انخفضت عدد الصفحات الخاصة بنقد و مراجعة الكتب في الصحف الكبرى إلى النصف مما أدى إلى تهميش أصوات نقدية هامة كانت تساهم في لفت النظر إلى الكثير من الأدباء و الأعمال الأدبية الجديدة الهامة. إن معظم القراء البالغين الذين أخبروني أنهم يحبون هاري بوتر لم يحدث أن جربوا قراءة أعمال تضاهيه في الجمالية و الحساسية مثل «جوناثان الغريب» لسوزانا كلارك أو «مواده السوداء» لفيليب بولمان. و ماذا عن العديد من الكتب الخيالية الأخرى التي تتمتع بقيمة أدبية تتفوق على كتاب رولينغ و التي تعد القارئ بعوالم لا يحلم هاري بوتر بها؟ و لماذا هاري بوتر وحده يجتاح عالمنا ليجعل من ثقافة القراءة تجربة هيستيرية من الاستهلاك الجماعي التي تذوب فيها كل الخصائص الفردية و الحميمية لتجربة القراءة الحقيقية المنزهة عن آليات السوق؟
عن صحيفة واشنطن بوست الأمريكية.