تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


موسيقى

ملحق ثقافي
19/1/2010
قصة:عبد الستار فواز: جلس عاصم إلى الطاولة العتيقة وهم إلى الكتابة،

لكن الطاولة سلبت الأفكار من رأسه إذ اهتزت وتأرجحت فراح بتأمل الأخاديد التي خلفها السوس في جسمها قائلا لها : « بيدك الحق إن ترتعشي احتجاجا على استخدامك الطويل، لقد بذلت ما بوسع إنسان أن يبذله.. أتذكرين تلك الأيام يوم كنت طفلا قبل نهاية عقدي الأول ، وقتها كنتِ صندوقا كبيرا لاحتواء قطرميزات الزيتون والمكدوس والبرغل والعدس و... كنتِ تقبعين في هذه الزاوية فعشتِ حياتنا متحملة أعباء ما كنا نتحمل ، وكنت الشاهد على كل ما يحدث في هذه الغرفة ،‏

كنتِ تشاهديننا عراة عندما كانت الوالدة تحممنا في عتبة الغرفة ،لكن أمي كانت تلقي عليك غطاء لا لحجب الرؤيا عنك ولا خوفا عليك من البلل ؛ لكن خشية أن تتسرب الرطوبة إلى داخلك فيفسد ما تحوين من مؤن.. أتذكرين الفراش الذي كان يُمدّ إلى جانبك ؟ لقد كان فراشي شراكة مع أخي.. هل كنت تسترقين السمع لتنهدات الوالدين عندما ينسل احدهما إلى فراش الآخر بعد أن يكونا قد أيقنا أن الأولاد قد ناموا،أكنت تدركين ما كان يحدث وقتها ! طبعا لا فلم يكن أحد منا يدرك. آه يا طاولتي يا غرفتي القديمة !! لماذا استغربتِ عندما قلت لكِ غرفتي القديمة ؟ نعم.. أنسيتِ يوم اقتدر والدي على شراء»نملية» لتحوي ماكنت تحوينه ، يومها أُفرغتِ من ساكنيكِ فنظفتك بالمقشة والصابون وجففتكِ ثم زينت جدرانك بأوراق الصحف والمجلات فأصبحت كغرفة صغيرة أمارس فيها فرحي وعبثي الطفوليين ، لكن ذلك لم يدم طويلا فقد فكفككِ والدي ليصنع منك طاولة أكتب عليها وظائفي وأحفظ دروسي ، فهل أنت قادرة اليوم لأمارس على متنك الكتابة وأفرح فرحي وعبثي الكهوليين !! مسكينة يا طاولتي فقد أفناك الدهر ومن العبث إصلاحك.‏

أسند الطاولة إلى الجدار عله يمسكها عن الاهتزاز ، وهم إلى الكتابة ثانية لكن ماذا سيكتب هل سيكتب عن تلك الأيام الغابرة يوم كان تلميذا في المرحلة الابتدائية ، عن أيام الشباب وعن وعن.......‏

كقطار سريع يجر عشرات العربات تتابعت الصور في مخيلته:‏

1- انصرافه مع التلاميذ من المدرسة وهم يهتفون :‏

سوريا ويا مصر تحيي الشهيد‏

جول جمال ضحى بروحو ببور سعيد‏

2- قسماً بالنازلات الماحقات‏

والدماء الزاكيات الطاهرات‏

والبنود اللامعات الخافقات‏

في الجبال الشاهقات الشامخات‏

نحن كنا ذا حياة أو ممات‏

وعقدنا العزم أن تحيى الجزائر‏

فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا‏

3- أسلحة للعدو معروضة في ساحة الشهداء استولى عليها جيشنا في إحدى معاركه مع العدو.‏

4- طوفان نهر بردى وعتّالة سوق الهال ينقلون الناس على أكتافهم إلى الجهة الأخرى وبالعكس ، المرأة العجوز التي أرادت العبور إلى الطرف الآخر دون أن يحملها العتّال على كتفيه حرصا على أن لا يلتصق جسمها بجسم رجل غريب فاضطر العتّال أن ينقلها مع زميله على لوح من الخشب حملاه من طرفيه ، ذلك الرجل الذي شمر عن ساقيه وحاول عبثاً الوصول إلى الجهة الأخرى فانتشله عتّال وحمله إلى تلك الجهة قائلاً له : «روح عمي ما بدنا منك مصاري».‏

خرج من البيت ففوجئ بالطفل نجم الدين –ابن جاره الملاصق لبيته- يبادره الكلام : عمو عاصم أنا خبيث متل «البعبع» بس أنا بخاف من «البعبع»‏

عاصم : ومن قال لك أنك خبيث ؟‏

نجم : أمي هيك بتناديلي ولَكْ خبيث‏

عاصم : وماذا تعني كلمة خبيث ؟‏

نجم : ما بعرف هيك كلهم صارو ينادولي‏

عاصم : لأ حبيبي أنت لست خبيثا أنت نجم ، هل تعرف النجوم ؟‏

نجم: يلي بيطلعو بالسما بالليل وبيضووا‏

عاصم : أيوا أنت واحد مثلهم‏

نجم : يعني انا بصير بضوي متلهم ؟‏

عاصم : طبعا بتصير بتضوي‏

نجم : بس هدول عاليين كثير وبدهم سلم طويـــــل طويـــل‏

عاصم: أنا عندي سلم.‏

نجم: وينو ؟‏

عاصم : عندي بالبيت تعال معي وسأريكَ إياه. يدخل الاثنان غرفة عاصم وراح الطفل جائلا بنظره كل أنحاء الغرفة بحثا عن ذلك السلم الطويل ، لكنه لم يجد إلا آلة كمان موضوعة على الطاولة وقد أثارت انتباهه فحاول مسكها فلمست إصبعه أحد الأوتار فاصدر طنينا أعجب الولد ، وراح ينقف بقية الأوتار بالتسلسل لتصدر رنينا رتيبا فاستغرب هذا الشيء سائلا :‏

ما هذا عمو‏

عاصم : هذا السلم الذي حدثتك عنه‏

نجم : بس هادا مو طويل كثير وبعدين وين بدو يحط رجلو الواحد‏

عاصم: هادا ما بينطلع عليه بالأرجل ، هادا بينطلع عليه بالأصابع.‏

وأمسك الآلة وراح يعزف لحنا جعل الصبي يمايل رأسه على إيقاعات اللحن.‏

ما إن وضع الكمان على الطاولة حتى أمسكها الولد محاولا تقليده ، لكن الأصوات لم ترضه فطلب من عاصم أن يعزف له المزيد. حمل عاصم الآلة وطلب من الصبي أن يردد خلفه ما يغني وبدأ عاصم العزف والغناء والطفل يردد المقاطع خلفه‏

حان الدرس رن الجرس‏

اسمعوه اسمعوه‏

صوته جميل ما له مثيل‏

دن دان دون دن دان دون.‏

غادر الولد غرفة عاصم مبتهج النفس مدندنا: صوته جميل دن دان دون.‏

أثارت دندنته استغراب إمه فانتهرته سائلة : من أين لك هذا ولَك خبيث.‏

نجم : «يدندن محركا يده اليمنى كما لو أنه يعزف على الكمان»‏

الأم : شي حلو والله ، هذا ما كان ينقصنا ، قل أين كنت ومن علمك هذا.‏

نجم: عند عمو عاصم.‏

الأم : وشو أخدك لعندو !! أما نبهتك أن لا تدخل لعنده‏

نجم : رحت اتفرج على السلم.‏

الأم : أنو سلم هاد « قالت وهي تنظر إلى زوجها مستغربة متسائلة بإشارة من كفيها وشفتيها »‏

الأب : دعيه يكمل « والتفت إلى الولد قائلا : أكمل بابا أكمل أحكي لي عن هذا السلم »‏

نجم : شغلة مو كبيرة بتنحط هون « مشيرا إلى ما بين ذقنه وكتفه « وفي عليها متل الخيطان وبطنطن ، وفي معها شغلة متل العصاية والها شعرأبيض بيمسكها بايدو التانية وبصير بيعمل هيك « مشيرا بيده كما لو أنه يعزف «‏

وبعدين بتقول تا تا تاتا تام ونحن منقول معها دن دان دون دن دان دون.‏

الأم غاضبة زاجرة : كف عن هذا يا لعين.‏

الأب غاضبا : قلت لك دعيه يكمل‏

الأم : لا والله لن أتركه ، هذا غير معقول يتعلملي الغناء والفقش والرقص شي حلو والله. «والتفتت إلى الولد ففركت أذنه محذرة إياه إن دخل ثانية إلى بيت عاصم فسوف تخلع رقبته».‏

الأب غاضبا زاجرا : كفي عن هذه الحماقة‏

الأم: وتشجعه أيضا !! علمه شيئا ينفعه لا أشياء سخيفة‏

الأب محتدا : وهل من السخف إذا تعلم الموسيقا !‏

الأم : طبعا.. الموسيقا مَفسدة للأرواح ومَضيعة للوقت‏

الأب : ومن قال لكِ ذلك ؟‏

الأم : لقد فسدت أفكارك من يوم صرت توالفه فقد أصبح نديمك بل أستاذك متى كان يدخل إلى بيتنا مثل تلك الكتب «دوسكو وترسكو• وغيرو وغيراتو، والأنكى من هذا طلبك من الأولاد أن يقرؤوا تلك الكتب وأبشع من هذا وذاك أنك ستشتري عودا أف.. ما هذا !! شيء...لا يطاق.‏

الزوج مقاطعا: اخرجي من قوقعتك أيتها الجاهلة وكفي عن هذه الحماقات ، أما سمعتِ أن الأبقار تستعذب الموسيقى ويزداد إنتاجها من اللبن عند سماعها الموسيقى‏

الزوجة : هذه فلسفات صاحبك.. لا وألف لا لن أبقى في هذا البيت ما دمت صديقه «وهمت للخروج من الغرفة لكن الولد تعلق بأذيال ثوبها باكيا» : مشان الله يا ماما لا تروحي.‏

في نفس الوقت كان عاصم يعزف لحنا للشيخ سيد درويش..‏

طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة‏

يلا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة.‏

• تقصد هنا دوستويفسكي و تولستوي‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية