تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


علي سليمان : جدل التحو ل الشكلي و الجمالي

ملحق ثقافي
19/1/2010
المؤلف:د. فاروق العلوان: إننا نعبّر عن آرائنا جدلاً بالكلمات، ولا نفكر في الأعم الأغلب إلا تفكيراً حدسياً فضائياً.

‏‏

فاللغة النقدية ترغمنا على أن نفكك بين أفكارنا وإحساساتنا، ذلك التفكك عينه الذي يفكك فيه الفنان الدكتور علي سليمان أشكاله وألوانه وتكوينات لوحاته بكونها أشياء مادية تقبل التسوية في ذائقتنا الجمالية المعاصرة، وبوصفها شرطاً لازماً لأكثر تشكيلات الحداثة البعدية، وإشكالية تمسكها بوضع المظاهر اللامكانية في المكان، وترجمة اللامتناهي بالمتناهي، وتشكيل ما لا شكل له بشكل، والتعبير عن الكم بالكيف والعكس بالعكس، ناهيك عن ثخانة عجائنه اللونية التي يحتدم حولها الجدل.‏‏

إن علي سليمان يقيم التناقض في قلب مشكلة التشكيل ذاتها، من جراء ترجمته للشكل المتحول عن أصله، إذ أنه أدرك كيفية التحول الشكلي من شكل إلى آخر، من دون أن يكون علة له، لأن التحول والتغير في الشكل الفني لا يخضع لقانون العلية وحده، وإنما يسيره مبدأ الخلق الفني، فالشكل المحدث عنده هو نتيجة للشكل القديم في آن، وهو هو عينه في الآن ذاته. إذ إن الشكل المحدث لا يمكن فهمه وتفسيره إلا من خلال الذي أحدثه، أي الآخر – الفنان – الذي خلقه، والشكل المخلوق ليس هو نفسه تماماً، بكونه قد جُرد من هويته الأصلية الخاصة به، وغدا يحيل ويشير إلى من أحدثه.‏‏

‏‏

طاقة تعبيرية مزدوجة‏‏

حين يُحدث علي سليمان شكلاً من شكل آخر، فيعني هذا أنه يمتلك قدرة ابتكارية على إحداث ما هو مختلف عن الشكل الأول، وفي الآن ذاته معبر عنه، أي أنه يخلق شكلاً ذا طاقة تعبيرية مزدوجة، حتى وإن كان الشكل المحدث ناتجاً عن الشكل القديم، فإنه ينفي هذا القديم على طريقة الجدل المثالي – لدى فيخته – الذي يعد أن الشكل المحدث ما أن يحدث حتى يثبت الشكل الآخر وينفيه في الآن ذاته. أو على طريقة الجدل الهيغلي الذي أحله هيغل محل العلة والمعلول ليجعل التأثير تبادلياً بين الشكلين من دون اقتصار الفعل الفني على أحدهما دون الآخر، ولذلك ينتج منهما ما يتضمنهما ويتخطاهما في الوقت ذاته، إلى شكل ثالث جديد كل الجدة.‏‏

لقد فهم علي سليمان جدل التحول الشكلي في الفن وتفسيره وتأويله فلسفياً، كونه يمتلك عقلاً جدلياً أكسب المتحول مفهوماً لفهمه، إذ إنه تدخل في صيرورته وبنى له نسقاً معرفياً يقابل به النسق المعرفي المؤسس في أصله الواقعي، بمعنى أنه خلق مقابلاً عقلياً له، ومن ثم حوله إلى نظام معرفي يبرر ذاته بذاته.‏‏

‏‏

علاقة خفية‏‏

وإذا طالعنا تقنية علي سليمان فإننا نجدها تكاد تختصر أسلوبه منذ بدايته، كونها ليست أسلوباً في الصنعة وإنما هي أسلوب في الرؤية والوعي والخبرة. وإذا كان هيدغر قد نبه إلى العلاقة الخفية بين كينونة العمل الفني وتقنيته بكونها علاقة استيعاب واحتواء أحدهما للآخر لا تغييبه وإخفاءه، فقد استلم علي سليمان هذا الهم الكينوني التقنوي، وأعاد ترتيب العلاقة بين كينونة عمله الفني وتقنيته من جراء تعقله لهذه الإشكالية بوصفها نتيجة ضرورية لما اكتسبه مشروعه الفني من تأمل فلسفي في كينونة الفن وتقنيته التي حتمت عليه إعادة تأمل كل تحول شكلي وأسلوبي مطلوب، فأغنت تقنيته بحواملها المادية كينونة عمله الفني بدلاً من أن تلغيه.‏‏

لقد ولينا وجهة نظرنا الندية هذه، نحو إشكالية وقع اختيارنا عليها من بين عدة إشكاليات يطرحها الفنان علي سليمان، ألا وهي إشكالية جدل التحول الشكلي والأسلوبي والجمالي.‏‏

‏‏

وترجع صعوبة مشكلتنا هذه كوننا نطلق اسماً واحداً على متباينات عدة نتمثلها بطريقة واحدة من شدة الإحساس، وكيفيات انطباعاتنا الحسية ذاتها بشروطها المادية التي تساهم في إحساسنا بالجمال الذي تمنحنا إياه تشكيلات علي سليمان المكونة من الأشكال الضائعة في هيولى اللامحدود، والتي يقتطعها فناننا من عالمها الهيولاني ليحقق لها إمكانية الإنوجاد، أي أن تنوجد،. ولولا الاقتطاع هذا لما أمكن لها أن تكون، وبعد أن تكون، فإنه يشحنها بطاقة لانهائية من الممكنات التي تنفصل عن أصلها وتمتلك إمكانية التحقق ب ذاتها، فتجعلنا نتخلى عن واقعيتها ونؤثر اللاواقعي على الواقعي.‏‏

ولا يصعب علينا اكتشاف مراتب الألم في تراجيديا المسيح «عليه السلام» التي صورها علي سليمان بتغيراتها الكيفية التي تفضي بنا إلى انسحاق مؤلم – وفي لاوعينا دعوة نحو متعة الألم – إذ إنه صور من هم أفضل منا، صور فعلاً نبيلاً تاماً، وغايته إحداث «التطهر – الكاثارسيس» – بالمعنى الأرسطي – في نفوسنا البشرية، من خلال إثارة انفعالي الخوف والرحمة، فينطلق الزائد من انفعالاتنا ونحس بهدوء وتوازن نفسي وروحي يساعدنا على السمو إلى المراتب العليا في البناء الأخلاقي.‏‏

‏‏

ومن المواقف التكوينية العاطفية المنحى المرئية في أعماله، هي تلك الحركات المتكسرة لفرشاته التي تتجاوز الكياسة بمعناها الأكاديمي، إذ إن كل حركة منها تقنعنا بذاتها، بكونها كياناً مستقلاً عما سبقها من حركات، ولا تعلن عن اللاحقات بها، ولا عن التابعات لها؛ بينما نجده في مواقف تكوينية أخرى يؤثر المنحنيات على المتكسرات، فيغير كل مستدير من خطوطه وجهة سيره على السطح التصويري في كل آن باتجاهات متباينة، ويتعالق كل اتجاه منها بجذر سابق له.‏‏

ولا يخفى علينا أن هذا التنقل وذلك الترحال الحر لفرشاته في تشكيل الخط والشكل يثير فينا الارتياح، أي أن الانتقال عبر خطوطه وأشكاله وبقعه اللونية، إنما يوقظ فينا الرغبة لإيقاف الديمومة وتجميد سيالة الزمن وتسمير المستقبل في الحاضر وإدراك عنف اللحظة قبل أن تزول.‏‏

ولكن علي سليمان لا يترك نفوسنا ترتاح بين حركاته إلا قليلاً، غذ ما ينفك يُدخل عنصر الإيقاع بموسيقاه على حركاته تلك، ليوقظ فينا حدس ما يقوم به من الحركات، فيظن أننا مشاركوه في خلقها، وتستولي الحركة بإيقاعها الموسيقي وتستوعب فكرنا كله، وتحتوي إرادتنا كلها، وتستحث في وجداننا الإحساس بالجمال، ليس بكونه مجرد اقتصاد في الشكل واللون كما أراده «سبنسر»، وإنما بالمتعة والتعاطف الخفي الذي بدأ يتكشف بسخاء بكونه يمثل جوهر الجمال السامي، كما يريده «كانط» و»برجسون».‏‏

ولا ريب أن شعورنا الجمالي هذا يتكون بدوره من عواطف متباينة، يعلن فيها اللاحق عما سبقه، ويتمظهر فيه، ومن ثم يتخطاه إلى الأبد. ولا ريب، أيضاً، أن هذا التحول الجمالي الكيفي هو عينه الذي نفسره بكونه تحولاً معيارياً في ذائقتنا الجمالية المعاصرة.‏‏

وتكمن صعوبة إدراك المتحول الجمالي في تشكيلات علي سليمان، في كوننا نعد جمال الطبيعة والواقع سابقين في كينونتهما على الجمال الفني - كما أعلن كانط من قبل - إلا أن حرية المنهج الفني عند علي سليمان، ليس إلا سلوكاً سباقاً في كينونته على عمل الطبيعة الخارجية، فيسوقنا طائعين ليحقق تحولاً جمالياً في إدراكنا، إذ يوقف ما هو موسيقي في تكوينات أفكرنا، ويجعل إحساساتنا تتذبذب بين نقاطه، فتنفعل روحنا بالهمسات الموسيقية الفنية، أكثر مما تنفعل بالأصوات الخارجية للطبيعة، ليكون الجمال الطبيعي لا يعبر إلا عن العاطفة، بينما الجمال الفني يوحي لنا بها.‏‏

المعادل الجمالي‏‏

وإذا تساءلنا عن مكمن الجمال وتحولاته في لوحات علي سليمان، فنقول: إنه يكمن في فناننا نفسه، إذ إنه يحول العاطفة إلى أشكال وألوان بتنظيم ما، وما ننفك ننفعل بالعاطفة هذه، بكونها المعادل الانفعالي الجمالي لتشكيلاته العاطفية ذاتها. إلا أننا، في الوقت عينه، لا يمكننا أن ننفعل جمالياً بها، إلا بعد أن تغفو روحنا وتنسى ذاتها وتحيا في حلم الفنان نفسه، لتحدس ما يحدسه. وهذا ما عناه «برجسون»: «بأن العاطفة الجمالية ليست عاطفة خاصة، بل إن كل عاطفة تأخذ طابعاً جمالياً، شرط ألا تسبَّب بل تُوحى» وحياً.‏‏

وهنا تتجلى فرادة علي سليمان الفنية، إذ إنه يدخل إلى أعمق حفريات انفعالاتنا الجمالية، ويجعلنا نحدس ما لا يستطيع إفهامنا إياه، إذ يضعنا دفعة واحدة في حالة شعورية جمالية تهدم كل السدود الزمكانية بين حدسنا وحدسه، فنحدس تعاقبات متحولاته الجمالية بكونها حالة حادثة في شعورنا، نستشفها في انفعالنا الجمالي الأصلي، ومن ثم يتحقق ازدياد نشاطنا الجمالي بحدس أكبر عدد ممكن من معطيات الإحساسات الجمالية التي يقدمها لنا في تشكيلاته، فتحدث فينا تحولات كيفية في بعض إحساساتنا أو كلها، تسمح لنا بوعي تحولاته الجمالية، فتتحول ذائقتنا الجمالية معها.‏‏

علي سليمان:‏

- مواليد 1955‏

- أستاذ في كلية الفنون الجميلة - جامعة دمشق.‏

- رئيس قسم الرسم والتصوير في كلية الفنون الجميلة من 2001 وحتى 2005.‏

- نال عام 1987دكتوراه في الرسم والتصوير من كلية الفنون الجميلة، برلين.‏

- كُرم عام 1987 بإقامة معرض خاص له في صالة العباقرة الشباب في برلين.‏

- عام 1987 نال جائزة التفوق من كلية الفنون فايسن زيي في برلين.‏

- عضو اتحاد التشكيليين السوريين.‏

- عضو اتحاد التشكيليين العرب.‏

- عضو اتحاد الفنانين الألمان.‏

- عضو مؤتمر اليونسكو لثقافات شعوب المتوسط.‏

- معد ومقدم برنامج الفن والإنسان للفضائية السورية.‏

-أستاذ دراسات عليا منذ عام 2000.‏

- أقام 43 معرضاً فنياً خاصاً لأعماله في سورية وأوروبا وآسيا.‏

- رشح عام 1995 لنيل جائزة اليونسكو.‏

تعليقات الزوار

علاوي اسد بابل |  babylion@rocketmail.com | 28/01/2010 01:55

والله لقد شوقتنا لتنظيراتك الرائعة يا أستاذ فاروق العلوان وصعدت بنا إلى عالم اللامنتهي في روح الفلسفة وليست الفلسفة وحدها وعدت بنا وبالثقافة إلى عصر عمالقة الفلسفة لياخذ البشارة بوجود فنانين فلاسفة كالأستاذ علي سليمان والفنان الفيلسوف الناقد فاروق العلوان لقد تركت فراغاً كبيراً في الساحة الفنية التشكيليلة العراقية ويتمت تلامذتك أيها الفيلسوف الكبير عزائنا انك تكتب وتنقد لعمالقة منلك ايها العبقري

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية