عندما طلبت مني مجلّة العربي أن أجري لقاء « وجه لوجه « مع محمد الماغوط , الذي لم يتم , لأن الماغوط كان يومها , متعففا , رافضا أي لقاء صحفي على عكس ما جاد به في أيامه الأخيرة من لقاءات , للصحفيين , ومحطات التلفزة. حيث كان يطلب منهم إجراء لقاءات معه في الوقت الذي كان يجب أن يحتجب فيه بسبب ما آل اليه وضعه الصحي الذي أثر على شخصيته ونطقه.
ولكنه يبقى محمد الماغوط.أحد كبارنا المبدعين الذين أثروا حياتنا الفكرية والأدبية بروائعهم الخالدة .
لقد كان الماغوط أعز أصدقائي ومن اهم اساتذتي الكبار الذين تأثرت بهم , في سبعينات القرن الماضي كان ينشرمقالا في جريدة المنار اللندنية لصاحبها رياض الريس , وكان يرسل قصّة لي مع مقاله بين حين وآخر.
هذه الصداقة التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاما , انتهت بالقطيعة من قبله عندما اعتذرت أن أتحدّث عنه في الفيلم الوثائقي الذي تم تصويره قبل رحيله لأنني كنت وما زلت , أتعثّر بنطقي..وأختبىء منه خلف ظلّي.
هذا ما كتبته في المقدمة :
محمد الماغوط , منفرد , متفرّد.
منذ السبعينات عرفته بركانا للثورة والغضب لا يهدأ ثورانه. في عصر تعددت فيه الولاءات والأقنعة. بقي هو هو.. محمد الماغوط. لم يتزحزح عن ثبات موقفه وقناعاته الفطرية. لم ينخرط كغيره في معمعة التنظيرات والشعارات والمساومات.
محبط , لكنه يقاوم الهزيمة بكومدياه السوداء. ساخر إلى حدّ الفجيعة.نهطل ضحكا عندما تعرينا صراحته الجارحة , وفي غمرة هطولنا نستر عرينا بدموعنا التي كانت تنزّ مثل جرح نحاول أن نبلسمه بتعويذة القدر.
دائما يجلس على نفس الكنبة التي ينام عليها والتي هبطت من ثقله... مرتديا كآبة العالم وجراحه.
لا يناطح هذا العالم , وإنّما ينظر إليه خلسة بعينه الثاقبه مكسورة الجفن, يمد له لسانه مرعوبا من خلف آلاف الجدران من الزنازين والسياط والأسلاك المكهربة.
محمد الماغوط , فيه من الغضب والعنف بقدر ما ينبض به قلبه من الحب والحنان. بإبداعه المتميز يحلق خارج السرب , يصنع أجنحة من غيم ومنقار من المطر , يبذرها من جراب حزنه من أجل مواسم خصب آتية.
في حنجرته الخشنة كل أوجاع الوطن يغنيها مواويل مفدوغة الأ وتار فادحة الصمت , يرتلها حينا تعاويذ , ويطلقها من جعبته البدوية خناجر ضد الجوع و القهر والعبودية والظلم.
يغرس أصابعه العشرة في مآقينا كي نكّف عن البكاء ونشرع زنودنا المتعبة التي نحملها كمناجل صدئة من هول تنكبها بلا فائدة – للعمل – دائما يسلك درب جلجلته الذي خطّه بحريقه , وبمشرط الجراح الماهر يعري أوجاع أمّة ¸وبعدما يشرط أورامها يرقص معربدا على ضفاف جراحها.
في محاولة مضنية يحلّق وحده خارج السرب « والأجنحة خطرة تستدعي تدمير الذات «. ومع ذلك اختار التحليق لينعي أحلامنا المكسورة وعشقنا المذعور وطفح البثور والخيانات على جلد العربان.
محمد الماغوط.
هذا المبدع , طافح الحزن , ماضي الشفافية , الذي ولد في غرفة بملايين الجدران. نذر نفسه قربانا للشمس وكان عازفا عبقريا عزف على جميع الأوتار كأنه اوركسترا.
أبدع في كل ما كتب ووقعها ببصماته العميقة :
« شعر ومسرح وسينما ورواية وتلفزيون ومقالات«.
مرحبا أيها « الرامبو « الذي ركب الأمواج , واخترق دياجير المحيطات...بلا مركب أو سفينة.