هذه ليست تصورات كاريكاتيرية عن «المبدعين المجانين»، وإنما حقائق تم توثيقها في كتاب كاتب السير الذاتية «ميسون كاري» الصادر في بريطانيا مؤخراً «طقوس يومية»، والذي يدون فيه الكاتب الروتين الغريب الذي يتبعه الأدباء وبعض كبار الفنانين عند الكتابة بداية من بيكيت وسترافينسكي حتي هاروكي موراكامي.
يتيح الكتاب فرصة للقراء للتعرف على حياة العظماء من زاوية مختلفة، قد تبدو مجنونة أو تتنافى مع الصورة الذهنية للأديب، إلا أنها في النهاية تثبت أننا لا نزال مهووسين بكل ما يفعله الأدباء ربما بدافع الغرور ولكي نثبت لأنفسنا أنهم لايختلفون عنا، أو بغرض التماهي مع شخصياتهم ومحاولة تقليدهم، أو حتي لمجرد الإحساس بالراحة لنزولهم إلى مستوى عامة الناس، فحتى العباقرة يحتاجون للطعام والنوم ويصابون بخيبة الأمل.
فوبيا السقوط عن السرير
أثار الكتاب ردود فعل متباينة، بين الاعتراض والاستحسان، البعض يرون أن ما يكشفه الكتاب ما هو إلا مزيج من إظهار ما يشعر به الأديب من القلق النفسي وجلد الذات، وأن نمط الحياة الغريبة التي يعيشها قد يكون هابطاً ومتحضراً للغاية في نفس الوقت، بينما هناك ما هو أسمى من ذلك، وهو أن الالتزام بالإعجاب بفن شخص ما يتطلب مراعاة أعلى درجات الخصوصية له، على أي حال فالكتاب يحتوي معلومات تنشر لأول مرة، على سبيل المثال: فالمؤلف الموسيقي الروسي إيغور ستروفنسكي يهوى الوقوف على رأسه حتى تواتيه نغمات سيمفونية جديدة، وهو يعد من أكثر المؤلفين تأثيراً خلال القرن العشرين، توفي في 6 نيسان 1971 ومن أشهر أعماله الموسيقية «قدسية الربيع» و«طائر النار»، أما الكاتب الفرنسي فولتير واسمه الحقيقي فراتسوا ماري أرويه فقد كان يهوى الالتصاق بالفراش، حيث يربط نفسه به بالحبال لمنع سقوطه عنه عند استغراقه في نوم عميق، وتشاركه تلك الفوبيا الشاعرة البريطانية إديث ستويل، فلوبيرت من جانبه لم يكن يكتب قبل قراءة الصحف وتدخين البايب في العاشرة صباحاً، وجورج صاند لا تبدأ الكتابة إلا بعد التهام الكثير من الشوكولا وتدخين التبغ، بينما ترومان كابوت وباتريشيا هيسمثيان ومارسيل بروست يكتبون في الفراش محاصرين بالطعام والسجائر والمشروبات الكحولية. وهناك أدباء ليليون، فهناك بيكيت الذي لا يستيقظ إلا عندما يحل المساء، وإف سكوت فيتزجيرالد الذي يكتب في الخامسة مساء، بينما جاكسون بولوك لا يتنازل عن النوم ل12 ساعة متواصلة يومياً، وهناك من يعانون الأرق مثل مارلين روبنسون التي استغلت ذلك في المزيد من الكتابة،على عكس تولوز لوتريك الذي يكاد لا ينام على الإطلاق مفضلاً تقسيم وقته بين الرسم والشرب بنهم.
والمخدرات أيضاً
خلال كل ذلك ذهب الكثير من المخدرات هباء في سبيل الإبقاء على أعظم العقول في عالمنا في حالة من التوقد والنشاط، فبالإضافة إلى مدمني المخدرات من العيار الثقيل مثل فرانسيس بيكون، هناك مجموعة أخرى من مدمني المهدئات والامفيتامينات مثل أودن، وبول إيرودز، والمسكنات مثل جان بول سارتر، ومنبه البنزدرين من أمثال غراهام غرين وأيان راند، والأفيون مثل بروست، وحتى الملينات مثل لويس أرمسترونغ.
كما قيل إن بلزاك يعتمد في حياته على احتساء خمسين فنجاناً من القهوة يومياً، وهو رقم مبالغ فيه بالتأكيد، كذلك كان بيتهوفن وسورين كيركغارد كانا مهووسين باحتساء القهوة، إلا أن بيتهوفن كان يصر على وضع ستين حبة بُن في الفنجان يتأكد من عددها بنفسه، وكان كيركغارد في كل مرة يشرح الأسباب الكامنة وراء اختياره ذلك الفنجان بالذات ليصلح لكمية هائلة من السكر، كما تتضمن القائمة هواة التهام الطعام مثل الممثلة إنغمار برغمان التي تتناول يومياً في وجبة الغداء نوعاً من الغذاء المخصص للأطفال مكوناً من الحليب والزبادي والمربى، بالإضافة لهوس إيريك ساتي بتناول البيض، حيث يستهلك عجة مكونة من ثلاثين بيضة في وجبة واحدة.
من يفعلها أربع مرات
قدم كاري لنا في الكتاب المشّائين البارزين من بين المشاهير من أمثال باهلر وبيكيت، والسباحين أمثال بيتهوفن وكيرغارد، ومحبي الزركشة والألوان الزاهية أمثال موزارت وفلوبير، وهواة الجنس جون شيفر وفرانك فلويد رايت، ومن يفعلها أربع مرات يوميا جورج سيمنون. كما سجل الكتاب أيضاً الأرقام القياسية سواء في بطء أو سرعة الكتابة، فجيرترود شتاين تكتب لنصف ساعة فقط يومياً، بينما حقق ويليام فوكنر رقماً قياسياً بكتابة ألف كلمة في جلسة واحدة. وبينما يفضل الأدباء الناشؤون الروتين اليومي الذي يتبعه بريخت، ما بين الإفطار وحل الكلمات المتقاطعة والكتابة، ثم القيلولة واحتساء المارتيني، فهناك آخرون يتميزون بالانضباط في برنامج عملهم اليومي، فكان لجون شيفر طقوس غير تقليدية، حيث يبدأ يومه بارتداء ما يطلق عليه بذلة العمل الرسمية، ويغادر مسكنه مستقلاً المصعد، وبعد أن يغادره ركابه في الدور الأرضي، يستمر في النزول حيث تقع حجرة مكتبه في البدروم، وهناك يخلع سرواله مرتدياً شورت ملاكمة، ويمضي فترة الصباح في الكتابة، ثم يعاود ارتداء بذلته الرسمية متجهاً للدور العلوي عائداً لمسكنه، وبعد تناول طعام الغداء يمضي فترة المساء دون أي جهد.
وبالرغم من سيرته الجامحة كانت أيام موتسارت المبكرة في فيينا درساً في الالتزام والنظام، فهو يبدأ يومه بتشذيب شعر رأسه في السادسة صباحاً، ثم ساعتان من التأليف الموسيقي وأربع ساعات للتدريس، يأتي بعدها تناول الغداء، ثم إحياء الحفلات أو المزيد من التأليف الموسيقي قبل زيارة زوجته المرتقبة كونستانز.
الكتاب ليس سطحياً
يقول ميسون كاري مؤلف كتاب «الطقوس اليومية»: «قد يبدو هذا الكتاب سطحياً معتمداً في بعضه على الشائعات، يقع في المغالاة والخطأ، إلا أن الحقيقة تبدو في بعض الأحيان غائبة، وعلينا بذل المزيد للحصول عليها، بتلك المجموعة النادرة من الحكايات المسلية والمثيرة، التي تشحذ التفكير»، ويضيف: «بالنظر إلي كل ما ورد في الكتاب نجد أنه من الصعب خلق الروتين الخاص بك، وأن تعتقد أن ذلك يجعلك أكثر شبهاً بديكنز أو فولتير أو موزارت، وهو ما يشعرني أنني قمت بإنجاز مهم، إن أكثر الناس انضباطاً من شأنه أن يلهم المعجبين ممن يواجهون الصعاب، أو كما قال لي ابن ديكنز: ليس هناك كاتب يمكن أن نقول إنه الأكثر منهجية وتنظيماً، وليس هناك مهمة يمكن تحريرها من الأعمال التقليدية أكثر من العمل في الإبداع.