فسطروا بحق في الذاكرة الجمعية أعمالاً لها لونها المختلف وخصوصيتها التي لا تُمحى في الحراك الإبداعي ، تاركين بصمتهم على جدار الزمن إبداعاً وجمالاً ورؤى فكرية وبصرية حفرت عميقاً داخل كل منا في القلب والوجدان .
هي الجدلية الأزلية بين الموت والخلود ، فهل للموت أن يغيّب من نحب ؟ وهل لمبُدِعِ حُفِر نِتاجُه في قلوب الملايين أن يتجرأ عليه الموت ويمحو وجوده ؟ أحقاً يمتلك الموت تلك السطوة التي يرعبنا بها أم تراه لا يقوى إلا على الجسد ؟.. ربما يكون له سطوة وجبروت ولكن عندما يطال المبدعين ومن سطروا في صفحات حياتهم أعمالا هامة تكون السطوة والخلود لما سطروه من إبداعات يصعب على الزمن أن يتجرأ للنيل منها أو يمحوها أو حتى أن يهمشها لأنها راسخة في عقول وأفئدة الكثيرين ولا تموت ، لا بل تحولت إلى ذاكرة وإرث فني وفكري وجمالي وحضاري ، فسيبقى ما تركوه من أعمال قصة تشهد على حياة كاملة عاشوها بألمها وفرحها وحزنها وتعبها ، ويبقى لهم مكان في قلب وذاكرة من الصعب أن يناله الصدأ يوماً مهما مرت عليه السنون .
خسارات متتالية لحقت بالمشهد الثقافي والفني السوري بترجل أربعة فرسان ومبدعين كبار في عالم الإخراج ، غيبهم الموت خلال شهري تشرين ثاني وكانون أول ، فخلال أقل من خمس وعشرين يوماً رحل كل من المخرج السينمائي محمد قارصللي (12/11) ، المخرج رياض ديار بكرلي (30/11) ، المخرج نبيل شمس (4/12) ، المخرج زهير ديوب (6/12) ، ولدى العودة إلى الوراء قليلاً نستذكر رحيل المخرج غسان جبري في الرابع عشر من شباط الماضي ، وإن كان لكل منهم خطه في العمل إلا أن ما جمع بينهم الروح التواقة للإبداع وتقاسم محبة الناس وصفات النبل والعطاء .
غسان جبري كان أحد أوائل مخرجي ومنتجي الدراما التلفزيونية ، ومن جيل الروّاد وأحد مؤسسي التلفزيوني العربي السوري ، كان عضواً مؤسّساً في «ندوة الفكر والفن» عام 1958 بإدارة رفيق الصبان ، عمل بالإخراج المسرحي والتلفزيوني منذ عام 1961 ، شغل العديد من المناصب في التلفزيون وكُرِّم في العديد من الدول العربية والأجنبية ، من أعماله (انتقام الزباء ، حكايا الليل ، الدولاب ، ارث الدم ، القيد ، الطير) . وإلى الجيل نفسه ينتمي المخرج رياض ديار بكرلي وهو من مؤسسي التلفزيون العربي السوري ، انتصر فيما انجز للدراما الاجتماعية العائلية التي تحمل الدفء في تفاصيلها ، ومن أهم أعماله التي بقيت في الذاكرة مسلسل (الأخوة) الذي كُتب في الثمانينيات وقدم الجزء الأول منه عام 1991 والجزء الثاني عام 1997 ، ومن أعمال نذكر : الخطوط الصعبة ، تلك الأيام ، ورود في تربة مالحة ، شخصيات على ورق .
المخرج محمد قارصلي له أكثر من ست وتسعين فيلماً تتراوح بين المتوسطة والطويلة إضافة إلى ثلاثة عشر عرضاً مسرحياً آخرها (خيبانة) ، عمل كمدرس في معاهد مسرحية وسينمائية وفي رصيده أكثر من عشرين جائزة أغلبها دولية في المسرح والسينما كما كتب عدداً من المسلسلات وصدر له كتابان وهما نصان مسرحيان (نافذة روح ، رب ضارة ضارة) . أما المخرج نبيل شمس فأرشيفه يزخر بأسماء أعمال هامة ، من أفلامه السينمائية (امرأة في الهاوية) 1990 ، ومن أفلامه التلفزيونية (المتقاعد ، أيام الصمت ، الوصية ، ليلة العيد) ومن المسلسلات التي أخرجها (يوميات أبو عنتر ، كحل العيون ، جريمة بلا نهاية) كما قدم للأطفال مسلسلي (تنورة للعصفورة ، أحلام الفتى يقظان) ، ونال في مهرجان القاهرة التلفزيوني جائزتين ذهبية وبرونزية ، في حين أن المخرج زهير ديوب تنوعت أعماله بين الاجتماعي والريفي والقاسم فيما بينها حالة الدفء التي حرص على تقديمها بلبوسها الإنساني ، من أعماله (سفر الياسمين ، زهرة الزيزفون ، البارعون ، اللوحة المنسية ، حالة خاصة ، عودة المسافر) كما قدم عملاً وثائقياً من تأليفه وإخراجه بعنوان :(زائر بصرى) .
مما لا شك فيه أن الكلمات هنا تبقى أصغر بكثير من التعريف بتجربة كل منهم ، ولكنها إضاءة للدلالة والإشارة ، كما تبقى العبارات مهما حملت من دفء ومحبة عاجزة وتخون صاحبها ، وغالباً ما تأتي أقرب للبعثرة ولكنها في مجموعها تشكل حالة حب ووفاء لمبدعين أعطوا بصدق وحب ، لقد كانوا كباراً في إنسانيتهم وابداعهم ، هذه الإنسانية التي تفوح كعطر ياسمين الشام ، العطر الذي يصعب تجاهله إن حلّ في مكان ،لما يمتلك من سمات تجعل من صاحبه إنساناً بكل مقاييس الإنسانية ومبدعاً يعطي من قلبه وذاته الكثير .