يتصل الحديث بالنص أيضا ..
إذ أننا نسمع ونقرأ اليوم نصوصا معاصرة هي أبعد ماتكون عن قبول العقل لها في مختلف نواحي الحياة.
وإذا كان صحيحا ما يقوله علم الاجتماع الحديث ، من أنه لا توجد قراءة محايدة للنص ، فنحن نقرأ على خلفيات علمية وثقافية ، لكن الصحيح أيضا أن ثمة نصوصا تحتمل الاختلاف ، وأن ثمة نصوصا تصدم العقل والتفكير معا !
فمن اللامعقول أن نصدق اليوم أن شخصا ما يمكنه شفاء المرضى بلمسهم بيده ، ونندهش أكثر حين نرى بعض الصحف ووسائل الإعلام والإعلان بهؤلاء وبغيرهم ، وهي تحتفي بهم .
وأمثلة هؤلاء أكثر من أن تحصى ، في الطب والطبيعة والجغرافيا والفلك والاقتصاد والسياسة .
ولا شك أنه لدى أي منا عشرات الأمثلة المليئة بالأوهام والخرافة والأساطير التي تحاصرنا وتأسرنا ، وكلها تقوم على الظن والاعتقاد بوجود علاقات خفية هي المسؤولة عن الربط بين الظواهر الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية .
ومما لا شك فيه أن العقل والتفكير السليم يدفعنا دوما إلى الدراسة والتحقق والتثبت من العلاقة بين الظواهر الطبيعية وغيرها من ظواهر الواقع المحسوس لا المتخيل.
وإذا كان لمن سبقنا العذر في إرجاع بعض أسباب الظواهر لأمور وعلاقات خفية بين الظواهر والحالات الكائنة في زمانهم ، نظرا لبعدهم عن العلمية والمنهج العلمي في البحث ، فليس لنا اليوم في هذا العصر أي عذر .
فقد أصبح التفكير علما قائما اليوم ، يمكن توظيفه من أجل الكشف واكتشافات العلاقة بين الظواهر المختلفة في العلوم الإجتماعية والعلوم البحتة ، وغيرها ، بهدف السيطرة والإفادة من الموارد ووضعها في خدمة الإنسان .
ولعل أولى خطوات التفكير الصحيح المعافى ، تكمن في عدم التسليم وقبول كل مايقال أو مايكتب ، وأخذه على علاته ، إذا لم يكن له سند علمي وعقلي ظاهر ، فالإنسان كائن يصيب ويخطئ ، وليس من الصحيح أن كل مايقوله قطعي ونهائي ، والقول بأن رأي من سبقنا صحيح دوما ، هو قول غير صحيح ، فالرأي القديم كان لجيل عاش في وقت وظرف لم تكن البشرية قد اكتسبت من الخبرة والعلوم ماحصلته اليوم ، فالرأي هو العلم والخبرة المتراكمة ، وبالقياس ، فإن الأجيال القادمة سوف يكون لها خبرات أوسع مما هو لدينا الآن .
وإذا كان معروفا أن هذا التوجه الفكري صحيح بالفعل ..
وأن علماء وفلاسفة عصر النهضة الأوربية كديكارت وغاليلو وبيكون قد اشتغلوا عليه وأرسوا قواعده وأسسه ومنهجيته ..
لكن الحقيقة المعروفة أيضا حتى عند الفلاسفة وعلماء الغرب ، هي أن الفلاسفة العرب سبقوهم في هذا المنهج الفكري بمئات السنين ففي موضوعة الشك في رأي ورؤية الأقدم يقول « ابراهيم النظام «(الذي توفي في العام ٨٦٩ م ) :
« لم يكن يقين قط حتى صار فيه شك ، ولم ينقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد حتى يكون بينهما شك « .
أما الجاحظ المتوفى (سنة ٨٦٩ م) ، فيقول :
« وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلما ، فلو لم يكن ذاك لا تعرف التوقف ثم التثبت ، والعوام أقل شكوكا من الخواص لأنهم لايتوقفون عن التصديق ولا يرتابون بأنفسهم ، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد أو التكذيب المجرد «
وهذا غيص من فيض منهج فلاسفتنا ومفكرينا الأوائل الذين سبقوا الأمم الناهضة في العصور الوسطى وسبقوا علماءهم ومفكريهم وفلاسفتهم بمئات السنين ..
فهل بوسعنا اليوم أن نتثبت الرأي والنص بعد شك؟
أم أننا سنمضي - كما نحن - خلف أمم الأرض ؟!
عن ما يسمى الرأي العام ( الشارع ) ، نسأل !.