تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


محمد الركوعي في صالة الرواق.. تكثيف رموز الأرض في لحظات الاقتلاع والتهجير..

ثقافة
الاثنين 9-12-2019
أديب مخزوم

يتجه الفنان محمد الركوعي في معرضه الأخير بصالة الرواق العربي (قاعة لؤي كيالي) لتكثيف رموزه التشكيلية المرتبطة بالأرض في لحظات الاقتلاع والتهجير،

ومن هذا المنطلق يشكل معرضه امتداداً لمجموعة واسعة من المعارض الفردية والجماعية، التي برز فيها كفنان مقاوم وملتزم ومرتبط بقضية الوطن والإنسان.‏

عناصر التراث‏

ومن الناحية التشكيلية والتقنية يعمل لصياغة لوحة فنية تصل حدود تخيل الشكل خارج المعطى الواضح أو الملمح إليه في التصوير الواقعي. كما يركز لإبراز أجواء الزخرفة الشرقية المنفلتة من الرزانة والتناظر الهندسي، والمتداخلة مع الاشكال الشعبية والفولكلورية والتراثية، والملاحظ أن تشكيلات لوحاته في هذه المرحلة، انطلقت في أحيان كثيرة من حركة الدوائر والأقواس، وتحولت إلى ما يقارب التكوينات الخيالية المتداخلة بكثافة لافتة، لكنها تبقى بعيدة عن الصخب والضجيج اللوني، وقريبة من أجواء الصياغة المدروسة والموزونة، وهكذا تتحول فسحة اللوحة إلى صياغة شاعرية (ناتجة عن طريقة وضع الطبقات اللونية) وتتحاور فيها ألوان متقاربة. وفي مجمل لوحاته الجديدة نرى التكثيف التشكيلي، لكثرة ما يحشد من الزخارف والأشكال والرؤى في اللوحة الواحدة، وغالباً ما يلجأ إلى الاستعانة بالمرأة الرمز، لإظهار جمالية الوجه الذي يتصدر اللوحة ويشغل مساحة منها، كما تظهر بعض التعبيرات المرتبطة بالأسطورة، من خلال توليف العناصر بطريقة بانورامية، بحيث تستجيب للرؤى الفنية والرمزية والخيالية.‏

واللافت في لوحات محمد الركوعي الجديدة، بروز اللون الأبيض، الذي يتخذه ستاراً لألوان أخرى مطلية به، ويظهر من خلالها عبر طبقات شفافة، كما نجد أحياناً حركات لونية بيضاء عريضة فيها قدر من العفوية، وثمة تأثيرات بصرية ناتجة عن هذه التقنية ، فاللوحات المعروضة حولت الصياغة اللونية الى أداء تقني وفني، ومن هنا نعتبر ان الأجواء اللونية والشكلية في لوحاته تشهد محاولات دائمة لإدخال بعض التجريب على الأشكال، وعلى تشكيل الزخرفة العفوية أو المتحررة، التي تستعيد أجواء الماضي الحضاري برؤية فنية قديمة وحديثة في آن واحد.‏

ولن نجد تفسيراً لهذا التنقل بين الصياغات الخيالية والزخرفية وبين الصياغات التعبيرية للوجوه وصولا الى بعض المقاطع التجريدية ، سوى أنه يراعي دائما، أكثر من مستوى، من جمهور المشاهدين، في الوقت الذي يراعى فيه مسألة الحفاظ على المستوى الفني للوحته ، بعيداً عن السطحية والعبث التشكيلي المطروح بكثرة في المعارض الجماعية والخاصة. وحين نشير إلى أن لوحات المعرض تتميز بالكثافة، فهذا يعني أننا نستطيع تقسيم اللوحة إلى عدة لوحات، دون أن تخسر اللوحة شيئاً من قيمتها الفنية والتقنية.‏

خطوط قلمية‏

وما يمكن أن نلاحظه أيضا وجود البيوت القديمة، وتداخلها مع الوجوه والأجساد والسمكة والطير والمزهرية وعناصر المنظر، وخاصة الشجرة التي تأخد في أحيان كثيرة شكلا بيضويا أو دائريا، وتتداخل الأشكال عبر الجو اللوني الشاعري الذي يبرز بقوة وبانضباطية محببة ، وهو يلجأ إلى إظهار حركات الخطوط الصريحة، المنجزة بأقلام الفلوماستر على أرضية الأكريليك. نجد أيضاً الزخارف والأشكال والرؤى، الخاصة بالفنان والتي تؤكد عنصر الثبات على ذاكرة فنية تتوضح من معرض إلى آخر.‏

ويتميز الفنان محمد الركوعي بغزارة الإنتاج والعرض ، والبحث عن تشكيلات جديدة، وفي معارضه تظهر ثنائية الحزن والفرح والانكسار والنصر، كل ذلك بخطوط متداخلة وتأخذ أحياناً حركات لولبية وحلزونية.‏

هكذا يخرج اللون بطريقة مغايرة عبر مزجه بمواد أخرى، وبطريقة تتلاءم مع حالته النفسية. هناك حوار متواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل في لوحاته، وهو عبر هذه الثنائية يغوص في المواد والتقنيات والعناصر والأشياء حتى يجد المعادلة.‏

كما يركز على اللون الرمادي وألوان الأرض بإيقاعها الموسيقي أي خارج القشور، إنه اللون القادم من معطيات ذاكرته الطفولية في فلسطين(من مواليد غزة عام 1950) وحين يرسم السمكة خارج الماء، فهذا يعني أن هناك شيئاً غير طبيعي يحدث في الواقع الحياتي الراهن. هو الذي تميز بمواقفه النضالية وتعرض للاعتقال والأسر، وحكم عليه مدى الحياة، ثم أطلق سراحه في عملية تبادل الأسرى. ونجد ألوانه وخطوطه تتردد في لوحاته كحالة وجدانية وإنسانية وكفاحية، وفي الوقت نفسه له ارتباطات بالأشياء الجميلة التي تثير اهتماماته. فاللون في لوحاته يتحول بعد وضعه على سطح اللوحة إلى صيغة أخرى مرتبطة بالذاكرة والتراث وألوان الحياة.‏

حزن مزمن‏

هكذا يصبح عمله جزءاً من الذاكرة التاريخية المهددة بالضياع والاندثار. فالتراث ليس له أشكال محددة يمكن حصرها بعبارات ، فهو يبحث عن نسيج لوني متغلغل في طفولته، ولقد وصل إلى جوهر التعبير الذاتي عن الأحاسيس والانفعالات الداخلية العميقة ، وهو يتجه عاماً بعد آخر، نحو المزيد من الحرية في تجسيد إيقاعات الشكل، وذلك بإضفاء اللمسات اللونية، الشيء الذي يؤكد علاقة لوحاته بثقافة فنون العصر، التي جعلته يشق طريقاً، نحو ملامح الحداثة التعبيرية والرمزية ، المتداخلة في بعض لوحاته مع الخلفيات التجريدية، والتي جاءت بشكل عفوي بعد سلسلة تجاربه المتواصلة،التي زادت قناعته بضرورة تأكيد خصوصيات البحث الأسلوبي والجمالي والتقني.‏

وتتشكل في تداعيات وجوه لوحاته هموم لا تحصى وأوجاع لا تنتهي، وهي تقع بين وجه المرأة الحامل أحياناً ملامح عمرية ، وتلك الوجوه الشابة ، وكلها مستمدة من بيئته وواقعه وفلكلوره وذاكرته الطفولية، ومن ثنايا الأزمنة والحزن المزمن ، الناتج عن معاناة التهجير، حيث يستعيدها مراراً في لوحاته، وبطريقة بعيدة عن المنطق التسجيلي، ومتدرجة بين الصياغة الواقعية والأداء التعبيري والرمزي.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية