تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


على منصَّة الموت

رسم بالكلمات
الأثنين 27/10/2008
سائر جهاد قاسم

عشرون عاماً مضت, ومضت الليالي تهرش قلقه, امتدت أمامه أصابع وهمية عملاقة, بدت كفكي تمساح وقبضت على عنقه في رحلة الهواجس المحبطة.

راح يعد على أصابعه ما تبقي لينهي محكوميته, وقال: خمس سنوات.‏‏

تمدد , تقلب يميناً ويساراً, مر الشرطي يتفقد الأبواب مصطحباً بخشخشة المفاتيح, وشكاوى المحكومين في الزنزانات الأخرى , شيعه من وراء الشبك وهو يعبر الممر كمن يعبر دهليزاً في مقبرة غير أنه أحسّ باضطراب.‏‏

وهو يعود إلى جلسته لنفرض أنني خرجت من هذا السجن اللعين فإلى أين سأذهب?, لا أهل لي والأصدقاء الذين كنت أعرفهم نسوني.‏‏

هل أخرج للتسكع على أرصفة المدينة. هل أستجدي (عوذل وحوقل) وتقلب من جديد أحس بنفسه مجرد حيوان داخل قفص لكنه سرعان ما زفر زفرة قوية وقال: الحياة هي الحياة.‏‏

في تلك اللحظة شاهد نملة من الحجم الكبير تهبط من أعلى الجدار, نظر إليها, كانت مغرية.. جذابة.. هاهو كائن يدخل إليه, تركها تسير كما تشاء وراح يكلمها كما لو أنه يكلم إنساناً فيما عيناه تلاحقها بشغف.‏‏

(أهلاً وسهلاً لعلك قاتلة.. من قتلت ليدفعوك إلى السجن, أم لعله الحاكم ذو الرأس الأصلع هو من حكمك .. لابد أن حكمك خمسة وعشرون عاماً.. هذا يعني أنك ستقضي عشرين عاماً لوحدك, تكلمين الجدران, أنا كلمت الجدران والسقف, وخيالات كانت تأتيني كأنها أطياف.‏‏

وصلت إلى أرض مشت إلى قدمه اليسرى .. دبت فوق الجلد, ثم ارتفعت إلى ثيابه , سارت باتجاه الصدر, توغلت في الشعر الكثيف تفتح ممرات للعبور, وحين لم يعد يراها مد سبابته, تسلقت عليها رفعها ووضعها أمام عينيه.‏‏

ومضت فكرة في رأسه, أحضر الصحن المعدني المخصص لوجباته الغذائية, وضعها داخل الصحن, وراح يدق دقات خفيفة على حافة الصحن, كانت النملة تنطرب تارة وتهز رأسها تارة أخرى.. كرر العملية بحث في الزوايا القذرة عن حبات الأرز.. لملمها ووضعها في الصحن . اقتربت النملة منها, فيما كان ينزع عن أفكاره ستاراً كان عالقاً بين الأمل المحبط في داخله والحرية التي سينالها بعد خمس سنوات وانتظم قلقه المفعم, أشعل سيجارة ووضع علبة الكبريت قربه ثم عاد إلى الدقات المتناغمة مع حالته النفسية, وجدها متسارعة, حاول أن يعيد الهدوء إلى داخله وحين خبت تلك الانفعالات المضطربة, راح يقرع على حافة الصحن قرعاً خفيفاً ذا إيقاع رتيب وحينها بدأت النملة تستجيب ترفع يدها ثم ما تفتأ تهبط بيدها وترفع قدمها تخليها راقصة باليه, سمع صوت أقدام الشرطي تقترب منه, أطل من وراء الشبك أخذ المخصصات وعاد إلى النملة سريعاً.. تركها داخل الصحن ووضع بعض حبات الأرز قربها, بعد قليل وهو يمضغ طعامه رأى النملة تقفز من أعلى الصحن إلى الأرض حاملة حبة أرز, فتركها وراح يراقبها.‏‏

عند الظهيرة وجد النملة تحاول التسلق إلى الصحن وقبل أن تأخذ حب الأرز وتقفز راح يقرع على حافة الصحن و بدا الأمر سهلا في البداية بعد خمس سنوات وضعها ضمن علبة الكبريت وخرج.‏‏

راح يقف في الزوايا المزدحمة بالمارة, يضع أمامه شبه طاولة عليها صحن وبيده زوج من العيدان, يقرع علىحافة الصحن فتستجيب النملة له, وما إن تفرغ الشوارع من المارة حتى يكون الصحن قد امتلأ بالنقود المعدنية وبعض الأوراق النقدية.‏‏

في أحد الأيام قرر أن يفقأ عين إبليس ويدخل المطعم ويأكل وجبة محترمة, كان لباسه أنيقاً, يضع قبعة على رأسه ذي الشعر الخفيف, وضع النملة في الصحن الذي أمامه وصفق مرتين فأتى النادل, عندها راح يقرع على حافة الصحن أمام النادل ,حين بدأت النملة ترقص رقصاتها الرائعة امتدت كف النادل وصفع النملة , فانسحقت تحت كفه نعتذر عن وجود نملة في الصحن).‏‏

هيئ إليه أن العالم أطبق على بعضه وأن الأمل الذي حاوره في الليالي المعتمة انقطع, وأن النادل إنسان مجرم ليس لأنه قتل النملة بل لأنه قطع آماله , وامتدت يده إلى سكين على الطاولة وطعن النادل.‏‏

بعد عدة أيام أحضروه إلى منصة الموت, أوقفوه على الكرسي وقبل أن يغمضوا عينيه بقطعة قماش أسود , نظر إلى الأعلى فرأى ما لم تصدقه عيناه, كانت نملة أخرى من النوع الكبير تتسلق السارية وتنظر إليه.‏‏

عندئذ أطلق ضحكة بجلجلة راح صداها في سكون الفجر وهي تنداح في أقبية السجن.‏‏

تعليقات الزوار

عبيدة المليح  |  obaid_almaleeh@hotmail.com | 27/10/2008 19:37

قصة رائعة و معبرة مشكور سيد سائر بارك الله بك و بقلمك اللذي صاغ هذه الكلمات

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية