وتضع ختمها اليومي على هذه المعلومة, مذكرة إياي أن ركاب الدرجة المتدنية من تلك القطارات كانوا من الفقراء حتماً, والفقر ببشاعته يولد المآسي البشرية, ويجعل من حياة أصحابه روايات تروى, والأدب لايرقى إلى مكانة عالية إلا إذا كتب عن المأساة الإنسانية, وأي مأساة أكبر من أوجاع الناس حين يبردون ويجوعون ويمرضون وتقهرهم الحاجة, وتنكسر أحلامهم في الحفاظ على آدميتهم? وجارتي محقة في كل ما تقول, وتجبرني على تذكر أن تشيخوف أبدع قصة وحشة التي تتحدث عن حوذي عجوز تخلى عنه العالم وأصم أذنيه عن أنين قلبه بعد موت ولده, فراح يشكو ألمه لحصان عربته, قبل أن يعرف تشيخوف تجربة القطار وهو في طريقه إلى جزيرة القرم ليستشفي بدفئها من مرض السل, فبعد هذه القصة لم يهتم بسائقي القطارات, بل بجموع من يستخدمها من الركاب والفلاحين وعمال السيرك, وموزعي البريد, وملاحي المراكب, ومعلمي المدارس, وهو لن يعرف حتماً أن جارتي التي قرأت القليل من أعماله تترسم خطاه وتترك سيارتها متوقفة على الباب وتستخدم الميكروباص لتسمع حكايات الناس, وحين الاضطرار تأخذ تاكسي وتحاور السائق حول هموم الساعة وحال البلد على كل الصعد! مدهش وجميل أن يستخدم المرء وسائل النقل العامة عندنا بدافع الرفاهية والفضول والإلهام الشخصي, ومثير للتأمل أن يكون الدافع لديهم مجرد فرجة على العباد في البلاد, دون أن يضطر لحظة للانكفاء عن هذه المتعة كأن يعود إلى قلمه وأوراقه ليكتب عن البؤس الذي آل إليه حال شوارعنا بسبب نزق السائقين والركاب على حد سواء, والعجائب التي تصادفه في الطريق بدءاً من عدم الالتزام بالمواقف وانتهاء بالسرعة الجنونية الممنوعة (كل ممنوع مرغوب سبحان الله بصرف النظر عن الفواجع المترتبة عليه) والتشفيط المفاجئ حين يلوح ظل راكب على الأرض, فهو هنا مطلوب, أما عندما ينحشر في العلبة الصفيحية فهو مزدرى بقيمة الليرات التي دفعها, أما التاكسي التي كانت إلى عهد قريب رفاهية للبعض فقد انعقدت لها العجائب, ففي بلدنا العزيز, دون كل بلاد الأرض, كما أحسب, يخوض سائقها حديثاً حميماً مع الزبون ( حتى دون تبادل الأسماء على طريقة الحب من أول نظرة, وفوق كل الاختلافات) ويعرض حالته الاجتماعية: منذ كم سنة تزوج, وعدد الأولاد وأعمارهم وكمية الديون المتراكمة عليه, بدءاً من أجرة البيت وانتهاء بتكاليف المشفى التي دفعها لأمه أو لزوجته, والضرائب الباهظة التي تفرضها الدولة عليه ومشاركتها له في رزقه, وشرطي المرور الذي يتبلاه ذهاباًَ وإياباً, بحيث ينتهي المشوار, ويترك في نفس صاحبه الراكب كآبة غامضة تتشبث ببلعومه قبل أن يصل إلى بغيته, حيث تنتظره هموم أخرى من أشهرها تعقيدات الموظفين في دوائر الدولة, دون أن ينسى الضغط النفسي الذي مارسه السائق ليزيد الأجر قليلاً سواء بادعاء تعطل العداد, أم بعرض مظلمة أنه سائق مستأجر لدى صاحب التاكسي أو بسرد مأساته العائلية, ولا أدري إن كان الملل سيعتري تشيخوف من تكرار هذه القصص المتشابهة, لو أنه عاش في بلادنا في هذا العصر الخالي من كل أشكال الرومانسية, وكيف سينصب ميزان المنطق, وهو يتجول في شوارعنا ومدننا وقرانا حيث تتساوى الشاحنة والقاطرة والمقطورة وباص النقل الداخلي والسيارات ( التي باتت, بحمد الله, تتلاقى على أرضنا من جميع الأشكال والألوان والجنسيات) والدراجات النارية, والدراجات الهوائية, لا أحد يدري ماحجمه, وبالتالي يتصرف حسب طبيعة هذا الحجم, وحيث يرى السائق أن كارثة الشوارع يسببها شرطي المرور, ويرى الشرطي أن السائق هو العاصي, المارق (ليته يمرق كما ينبغي) أما المشاة فهم وحدهم مكفوفون وصم, فتجدهم كأزهار المرج, ينبتون بين السنتيمترات التي تفصل سيارة عن أخرى, لا تعرف عيونهم النظر إلى الإشارات ولا تميز الأخضر من الأحمر! قد يخيل لتشيخوف أنه يشرف على بحر يختلط فيه الحابل بالنابل و الحيتان مع الأسماك الصغيرة, والكل ضربه جنون البقاء, ولا يبرأ فيه أحد, حتى مصلحة الهاتف والمياه والمحافظة التي يجب عليها تعبيد الشوارع وقد بات من يقود سيارته عليها يرقص رقصة عصرية مبتكرة هي رقصة الخض المتواصل, إذ لايخلو شارع من الرقع غير المتقنة, وكأنها استنسخت ( ونحن في عصر الاستنساخ) عن موج البحر غير المستقر, ويجب أن يتفادى سلسلة من غرف التفتيش, التي للعجب بعضها غائص وبعضها مرتفع لأسباب ملغزة لا يعرفها إلا مهندسو الطرق! بعد هذا كله لن يرمي تشيخوف أسباب انهيار أخلاق المرور الشامل على الشرطي ودفتر مخالفاته لأن في هذا ظلماً ما بعده ظلم , بل فيه تبسيط وتبخيس للمعضلة التي نعاني منها جميعاً وبلا استثناء, وإن لم تكن هناك جهود تبدأ من أعلى هيئة رسمية في الدولة تبدأ من احترام المهندس لعرض الشارع وانبساطه ومعرفة العالم لكمية الإسفلت حين يفرشها على الأرض, وتسريع إنجاز الأعمال التي تغلق منفذاً في طرف العاصمة فتغرق كل الساحات والمنافذ بالاختناقات ورفع ثقافة مستخدمي السيارات الذين باتوا يستهجنون بل ويصيبهم الجنون إذا توقف واحد منهم لتعبر أم مع أطفالها أو تخرج سيارة مزنوقة في شارع فرعي, وكأنه ارتكب خطيئة تعطيل وصول مريض مشرف على الموت إلى غرفة إنعاش.
ما يدمي القلب فعلاً هي الصورة العامة لمدينة دمشق (التي تلحق بها أخواتها من مدن سورية) لأن هذه المدينة باتت بلا أرصفة, وبلا شوارع مستوية (حيث الرقع غير المتقنة سمة تخجل القرن الحادي والعشرين) وبلا مرائب لائقة وتفتقر إلى الحد الأدنى من التكيف مع قوانين المرور التي سنت للسلامة والحضارة, بحيث بات وصف هذه المدينة بأنها عروس الياسمين مغماً بل ومضحكاً لأنه يفتقر إلى المصداقية, ويحيلنا إلى مدينة أخرى لا وجود لها, إلا في بعض أبيات الشعر وخيال من لا يعرفها حق المعرفة أو من أحبها وأغمض عينيه عن دائها المعاصر, فهل من محب موضوعي يطلب العلاج على ألا يكون هذا العلاج شرطياً خرافياً على بوابة مدينة فاضلة لاأم ولا أب لها.